الخميس، فبراير 02، 2023

قراءة جديدة في أوراق قديمة


  

قراءة جديدة في أوراق قديمة 


تمثل الكتابة لليافعين تحدٍ صعب وشائك لمن  يقرر أن يخوض غماره وذلك بسبب عدم وجود نمط أو كتالوج محدد يمكن القياس عليه لتلك المرحلة الحرجة التي تقع بين الطفولة والشباب ومقدار ما يحدث خلالها من تغيرات فسيولوجية ونفسية وتفاوت في القدرات والمعارف بين أبناء الجيل الواحد ،فلابد للكاتب أن يكون علي دراية كاملة بطبيعة أفكار واهتمامات هذه الفئة والأسئلة  التي تنازع أنفسهم وتشغل محور اهتمامهم والمفاهيم التي يعتنقونها حول الآخرين والعالم من حولهم ورؤيتهم لأنفسهم و لحاضرهم ومستقبلهم ويجب أن يصاغ كل ذلك في إطار لا يستهين بقدراتهم ولا وعيهم ولا مشاعرهم كما أن الصدق هو باب الوصول المضمون إليهم ،كذلك هناك خيط رفيع بين الكتابة لليافعين، أو الكتابة عنهم ،أو (الكتابة لهم وعنهم في آن واحد) وهو ما يجعل الأمور غير واضحة حتي لدي العاملين في حقل الكتابة والنشر، فيجد الكاتب صعوبة في إقناع الناشر بفكرته ومشروعه ،مالم يكن لدي الناشر هيئة استشارية واعية وذات خبرة كبيرة بهذه التفاصيل

 مجموعةقصص «أوراق قديمة» لعفاف طبالة تمثل أحد هذه التحديات مجموعة مكونة من ثلاث حكايات بعناوين «جيوب» و«تحت الرجلين» و«حجرةالخزين» كتبتها عفاف طبالة بصيغة المتكلم علي لسان فتاة ناضجة تحكي مواقف واجهتها في سنها المبكرة ولعل ذلك كان السبب في أن يتوهم كل من يقرأها أنها سيرة ذاتية أو جزء من مذكرات الكاتبة نفسها،   هذا بالإضافة إلي درجة الصدق والإلمام بمشاعر ورغبات بطلة القصص، والاندماج التام معها، والتعبير عن مشاعرها بأدق العبارات وأقصرها 

لكن الحقيقة غير ذلك تماماً  !! 

أو دعنا نقل غير ذلك بدرجة كبيرة 

نعم هناك تشابه

 فالكاتبة سيدة وكانت طفلة ومن أسرة فوق المتوسطة ولها نفس العدد من الإخوة والأخوات ولكن الحكايات والأفكار والحبكة هي من بنات أفكارها

 فالكاتب مثل النحلة يتذوق جميع الأزهار ويمتص رحيقها ثم يهضمه ويخرجه في النهاية في صورة حكاية يتوهم القاريء من فرط صدقها أنها حقيقية ويبدو أن عفاف فطنت إلي ذلك اللبس فقالت علي لسان الجد في القصة الأخيرة« حجرة الخزين» العبارات التالية 

«قد لا تكون بهذا الجمال في الحقيقة فالفنان لا يقدم الواقع كما هو»

«ما يرسمه الفنان ليس ما عليه الأشياء في الحقيقة بل كما يراه هو أو كما يحب أن تكون» 

« الفنان لا يكذب هو يستوحي من الواقع ليصنع حقيقة خاصة به» 

«الفنان يستبعد أشياء من الواقع ويختلق أخري ليعطي للوحة المعني الذي يريد»


في الحكاية الأولي «جيوب»  بطلتنا طفلة لها شخصية مختلفة لكن لا أحد يلتفت إلي رغباتها البسيطة ولا يعترف بشخصيتها المستقلة ولا يحترم ذوقها الرافض للمألوف إنها فتاة رقيقة وذكية ومختلفة وهي كذلك مستقيمة الخلق ترفض الغش ولا تتنازل عن أحلامها ولو باعدت بينها وبين تحقيقها الظروف ولديها القدرة علي شرح وجهة نظرها والتأثير في الآخرين ولو كان ذلك التأثير لا يظهر إلا بعد سنوات طويلة حيث تتأكد أن الأحلام أبدا لا تموت بل تبقي حاضرة في نقطة بعيدة من الوعي حتي تأتيها الفرصة لتتحقق


في القصة الثانية «تحت الرجلين» نتابع يوميات الفتاة التي تبدو لأول وهلة هي نفسها بطلة الحكاية الأولي فهي كذلك مستقيمة صادقة ولكنها مسالمة وتكره الدخول في صراعات من أجل أشياء تراها تافهة، ولكن ما يزعجها عدم تفهم الآخرين هذا ، واستسهالهم الاستيلاء علي حقوقها واتهامها بالجبن بسبب ذلك التسامح، فهم يستولون علي حقوقها اعتمادا علي أنها عاقلة، لكنها كانت تشعر بالظلم رغم ذلك

 مع أنها في الحقيقة تؤمن أن دخولها في شجار من أجل بعض المكاسب التافهة يجعلها غير راضية عن نفسها

 ونتعرف من خلالها أن التنازل ربما يحتاج أحيانا إلي شجاعة أكثر مما يحتاجه الشجار وفي النهاية وبعد سنوات كثيرة تكتشف أن مشاعر أمها نحوها كانت حقيقية ولم تكن أبدا تطييبا لخاطرها حتي تمرر حلولها المنحازة نحو إخوتها ولكنها كانت تعنيها فعلا 

" لم تظلميني طوال هذه السنين إذن بل أنا التي كنت أظلمك»

 

القصة الثالثة «حجرة الخزين» نستمر مع بطلتنا المستقيمة التي تكره الكذب وتتجنب إيذاء الآخرين بكل وسيلة ولكنها تعاني أيضا بسبب عدم التفاعل معها من جانب إخوتها أو أقاربها الأكبر منها ،فهي لا تجد معهم ما يناسب ميولها نظرا لفرق السن بينهم واختلاف الاهتمامات ، فتتجه إلي شغل وقتها بالتعرف علي بيت الجد الغامض وكسر التابوه المرعب الذي رسمته جدتها المتسلطة حول بعض الأماكن في البيت القديم لمنعهم من دخولها

 وتجد في حجرة الخزين مفاجأة تفتح لها آفاقا متعددة من المشاعر والأفكار والحكايات الملهمة وهذه القصة بالذات أشعر أنها كانت تستحق من الكاتبة المزيد من العمل

 فهي مفعمة بالأفكار والمشاعر والأحداث  وربما المغامرات المثيرة التي تناسب رواية قصيرة وقد برزت فيها عفاف المخرجة في كتابة مشهدية كان بطلها الضوء والظل والصورة  لتقدم محتوي بصري موحٍ وكأننا أمام المخرجة  الفنانة تكتب ملاحظاتها لمدير التصوير لينفذها في صور رمزية معبرة ذات حس مرأي باهر «مدرسة الرسم بالضوء »

 مثلا🎬

  " كانت علي جانبي الممر الأيمن والأيسر حجرات موصدة الأبواب وفي نهايته من الطرفين بابان كبيران ينفذ من عقبيهما بصيص لضوء النهار في الخارج وفي مواجهة السلم في العمق غرفة غارقة في الظلام بدت لي في حلكته كفم غول مفتوح»

«لاحظت خيط نور مرسوما تحت عقب باب الحجرة الاخيرة» 

«خرج من الحجرة رجلان تاهت تفاصيل ملامح وجهيهما في ظلمة الممر »

«لكن الضوء النافذ من الباب كشف تفاصيل المكان»

«كان الضوء ينعكس علي جانب واحد من وجهه ويرمي بظل جسمه الطويل علي أرض الممر »

«رمي ضوء الشمس بظل كل ما اعترضه علي الارض» 

«التفتُ إليه فرأيت ضوء شمس  العصر قد فرش نوره علي كامل وجهه لحظتها بدا لي جدي بجلبابه الأبيض كملاك طيب»

«علي ضوء أباجورة تتوسط السريرين تركت مضاءة بأمر جدتي» 

«تخيلت نفسي فلاحة تغني وتعمل في الحقل ألهمت فنانا ليرسمها »

«كان الضوء النافذ من الباب يغطي وجهه ويرمي بكامل ظله عليّ »


-أنت دائما تشيد بأعمال عفاف طبالة؟!😎

- يبدو أن حبك لها يؤثر علي رؤيتك فتكون منحازاً دائما🙏

- ولم لا ؟

يا صديقي عفاف طبالة تمثل تحدياً مرعبا لكل من يكتب لليافعين، أعمالها حصدت كل الجوائز وكتبها ومن ضمنها هذا الكتاب مقررة علي طلاب المدارس ومرشحة من قبل الهيئات التربوية العالمية 🔬


- إذن دعني أبحث عن أشياء ربما كانت سلبية أو غير منطقية  غابت عنك

في حكايتها الأخيرة التي أشدت بها «حجرة الخزين» 

- خذ مثلاً:

 علمنا أن الجد قد تقاعد لكنه يقدم الإستشارات المجانية للفقراء 

وعندما تأخر هو والبطلة في الخارج نجد الجدة تفترض مباشرة أنه كان في المحكمة من أين جاءها هذا اليقين «ألم يتقاعد؟ » 

ويجيبها  مجاريا لها أن المحاكم تغلق لكن المكاتب تظل مفتوحة! مع أن مكتبه في نفس البيت؟ 


كذلك غياب البطلة الفتاة الصغيرة عن الجد والجدة غير المبرر والمدي الزمني الطويل دون تواصل مباشر لأكثر من عشر سنوات علي هذه الزيارة ومع ذلك مازال الجد محتفظاً بتفاصيلها بل كوّن رأياً مسبقاً نحو الطفلة التي كبرت وافترض أنها لابد أن تكون نفس الشخص الذي كانته منذ عشر سنوات

 ثم تشعر الكاتبة أنها ربما تسرعت قليلاً فتقدم مبررا علي لسان الجد ،« أنه كانت تصلني أخبارك»

هذه المنطقة فيها ضعف، وكانت تحتاج إلي المزيد من المواقف تتيح التواصل بين الجد والحفيدة بأي وسيلة  

حتي يستقر لديه ذلك اليقين والاقتناع الذي تكوّن خلال هذه السنين وما تبعه من اتخاذه لقرارات هامة والبوح لها بأسرار خاصة 

«مرت سنوات تراجعت

فيها وقائع هذه الزيارة لبيت جدي الي خلفية ذاكرتي حتي كدت أنساها» 

«طلب جدي من أمي أن تبلغني أنه سينتظرني فيها لنستكمل حديثا بدأناه منذ سنوات ولم ينته بعد فالظروف لم تسمح بزيارات صيف أخري»

- أرجو أن يكون نقدي السلبي قد أقنعك بموضوعيتي؟

- علي كل حال أنا أري أن هذه المجموعة الصغيرة من أقوي وأجمل ما قرأت لعفاف طبالة

كما أن رسوم هنادي سليط التي جاءت بطريقة الظلال كأنها  لوحات لخيال الظل وبلا ملامح كانت مناسبة جداً ومتوافقة مع رؤية الكاتبة التي لم تذكر اسماً لأي من شخوص القصص ليجد كل منا فيها جزءاً من نفسه، 

كما أن بالقصص الكثير من الخلاصات المعبرة التي يمكن اعتبارها حِكَماً و مقولات نادرة 

وكان أكثر ما مسني بشكل شخصي قولها «السلامة هي أن نستمتع بالرحلة وليس فقط أن نظل أحياء »🙏


- طبعت الطبعة الأولي أغسطس 2007 عن دار نهضةمصر


- أوراق قديمة مجموعة قصص قصيرة للشباب، اختيرت لتكون واحدةً من كتب مكتبات مدارس المرحلة الإعدادية على مستوى الجمهورية 2008؛ وكانت ضمن قائمة شرف تضمنت عشر كتب على مستوى الوطن العربي لإختيار معرض ال101 كتاب الذي تنظمه مؤسسة أنا ليند الأورو متوسطية.


− أنتجت وزارة الثقافة في الأردن القصة الثالثة من المجموعة "حجرة الخزين" كمسرحية في مهرجان مسرح الطفل في عمان في 2012


شكرا د.عفاف علي هديتك القيمة💕

الأحد، يوليو 17، 2011

شــجرة الحــرية


راما العجيب
كان الهدهد راما محبا للسفر والتجوال فى بلاد الله الواسعة، ولكنه بعد كل مرة كان يشعر بالحنين إلى
وطنه فيعود ليلقى إخوانه وأصدقاءه محملا بكثير
من الحكايات والغرائب والطرائف فيتجمعون حوله
ليحدثهم عما شاهده فى رحلته، وكيف اجتاز جبالا
وصحار ووديانا وبحارا... وكم شاهد من ممالك ورأى من خمائل وحدائق وأنهارا وعرف من طبائع البشر والطيور والحيوان، وفى كل مرة كان يعود ليجد عشه كما هو لم يصبه سوء ... ولم يعتد عليه أحد، بل يجده كما تركه جميلا قويا نظيفا، وإخوانه يلقونه بالبشر والترحاب والرغبة فى سماع حكاياته، مقبلون عليه وملتفون حوله مما كان يشعره بعظيم السعادة والفخر والاعتزاز بما قام به من مغامرات وما أصابه من نجاح، ولكنه فى هذه المرة لاحظ الوجوم سائدا بين الهداهد وعرف فى وجوه أصحابه شئ من الحزن لم يعتده منهم، وعدم إقبال على حديثه.. فما كان من راما إلا أن مال بجناحه على صديقه دندش وسأله " ما بال الهداهد واجمة والحزن يخيم على كل الأعشاش ؟ ماذا حدث فى غيابي ... يا دندش ؟ "

الهداهد فى ورطة
طأطأ دندش رأسه وأشار بجناحه وقال " أنظر يا راما إلى تلك الخميلة المجاورة "
نظر راما على الفور فوجد الأشجار وقد غطتها مجموعة من الأعشاش الكبيرة قبيحة المنظر تملأ الأغصان فسأل دندش " لمن هذه الأعشاش يا دندش ومتى بنيت ؟ "
قال دندش : لم يمض وقت طويل منذ رحلت فى سياحتك الأخيرة حتى جاءنا رسول من مملكة الغربان يطلب مقابلة ملكنا هدهود العظيم "شفاه الله" وعندما قابله أعلمنا أنهم يرغبون فى بناء مجموعة صغيرة من الأعشاش المؤقتة لتكون مأوى لصغارهم فى تلك الخميلة المجاورة لأعشاشنا لحين الأنتهاء من تجديد أعشاشهم القديمة، وبرر ذلك برغبتهم فى جيرتنا والقرب منا لما عرف عنا من مسالمة وحسن العشرة، وأنهم سيكونون مطمئنين على صغارهم وهم فى جيرتنا وتعهد بعدم إزعاجنا أو إشعارنا بأى ضرر من تلكم الجيرة المؤقتة.
فما كان من الملك هدهود الطيب الإ أن أجاب طلبهم قائلا " إن خمائل الله واسعة ولا ضرر من استضافتكم لحين انتهاء مدينتكم على الرحب والسعة!!"
صاح راما : هكذا دون أن يسأل أو يستشير الهداهد؟
قال دندش : نعم هذا ما حدث ,...
وشيأ فشيأ أخذت الأعشاش تتكاثر وتنمو كالسرطان من حولنا وشيئا فشيئا تحولت لهجتهم الودودة إلى وقاحة وتحرش بنا وبصغارنا، ولكن الشئ الأخطر أنهم أرسلوا الى ملكنا الطيب هدهود -شفاه الله - إنذاراً شديداً إذا لم نغادر الخميلة فى غضون يومين بأن ينتفوا ذيله وتاجه ويطردونا جميعاً شر طردة ! "
نظر راما إلى صديقه دندش نظرة كاسفة وقال بصوت ملؤه الألم " وماذا كان رد مليكنا على ذلك الرسول الوقح "
قال دندش " تعلم يا صاحبى أن مليكنا رجل وهن جناحه وخارت عزيمته من طول السنين، ونحن لم نتخيل أبداً أن يمر علينا يومٌ كهذا نتَّهدد فى عقر دارنا ولم نحسب حسابه والملك المسكين تكالبت عليه الأمراض والأحزان وهو الآن يعانى من سكرات الموت وليس لنا من رئيس أو زعيم يحل محله أو ينوب عنه ولا نعرف ماذا نفعل ! !"
قال راما : " وأين .. أصدقائى الذين اعتادوا الجلوس معى والترحيب بى؟ أين ماجنوم وساندو وماندو وسنونو وتوتو ".
قال دندش : " إن كل منهم يلزم عشه حزينا، يفكر فى تلك الكارثة التي حلت بخميلتنا، وبعضهم يجمع أفراخه استعدادا للرحيل."
صاح راما وهو ينفض جناحيه بقوة وقال : " كيف يكون ذلك ؟ اجمعهم لى من فورك وانتظروني بجوار عشي حتى أعود .......................

البحث عن مخرج............................
لم يمض وقت طويل حتى اجتمع أصدقاء راما حول عشه وكل منهم خائر الهمة، حزين منكسر الجناح، وعندما عاد راما صاح فيهم .." ماذا أصابكم؟،
أين صخبك يا ساندو ؟ وأنت يا سنونو أين مرحك؟ ولماذا توقفت عن المعابثة يا ماجنوم؟ ماذا أصابكم؟ "
قال توتو : " وهل يخفى عليك ما أصابنا يا راما العزيز "
قال راما : " وهل معنى ذلك أن نستسلم للحزن واليأس هكذا ! ! "
قال سنونو : " وماذا بيدنا أن نفعل أمام تلك القوة الغاشمة "
قال راما : " الواجب أن نبحث الأمر وأن نستشير بعضنا حتى نتفق على الوسيلة التى نخرج بها من هذا المأزق فالأمم معرضة لمثل تلك النوازل فى كل وقت، ولكن من حسن الفطن أن نملك أعصابنا ونشحذ فكرنا لنجد أسلم الحلول لمشاكلنا، فلكل مشكلة حل، فليبد كل منكم رأيه "
قال ماندو : " إن الغربان عدو جبار ومحب للدماء ولا طاقة لنا بمحاربته وليس بيدنا إلا الفرار من أمامه قبل أن تنتهى المهلة "
قال راما : " وأنت يا دندش ماذا ترى ؟ "
قال دندش : أرى أن يأخذ كلا منا طريقه بعيداً عن هذا الخطر الداهم الذى لا فكاك منه فأرض الله واسعة ولا جدوى من محاربة عدو تعرف أنك منهزم أمامه لا محالة "
ثار راما ونفض جناحيه ورفع ذيله ونفش تاجه وقال :" ما أسوأ ما رأيتم يا أصحاب ... نرحل! .. نرحل عن أوطاننا ونتركها نهباً لعدو غادر خسيس من أول تجربة تصيبنا إننا بذلك نساعدهم على هلاكنا،
لابد أن نجمع أمرنا ونستعد لمواجهتهم ونحرص على ألا يأخذونا على حين غرة منا، نقاتلهم قتالاً لا يلين، ونستعين بكل ما نستطيع من حيلةٍ أو صديقٍ أو حليفٍ حتى نجلي هذا العدو عن ديارنا وإلا ما استحققنا الحياة...
وأنت يا ساندو لماذا بقيت صامتاً هكذا ضاماً جناحيك بماذا تشير ؟"
قال ساندو : " أرى أن نبعث لهم رسولا ونطلب منهم مسالمتنا على أن نعيش جنباً إلى جنب دون أن يعتدى أحدنا على الآخر على أن نؤدى لهم كل عام جزية تكون دافعاً لنا من أذاهم ".
قال توتو : " كيف هذا يا صديقى ساندو؟ إننا إن نفارق أوطاننا ونصبر على غربتنا خير لنا من أن نذل ونخضع لعدونا ذلك الخسيس الدنئ الذى جاء ليغتصب أرضنا ومالنا وشرفنا "
قال راما : " وماذا عنك يا ماجنوم لماذا لا تشير علينا برأيك ؟ "
قال ماجنوم :" لا طاقة لنا على قتال الغربان فالأمر الواضح لكل ذى عينين أن المعركة غير متكافئة ونتيجتها الخسران لا محالة وفى هذه الحالة لا بد لنا من طلب العون ممن نرى فيه القدرة على معونتنا على أن نأمن غدره، فلا نستبدل عدواً بعدوٍ، فالقتال على كرهه لا بد منه ولكن بعد أن نعد عدتنا "
قال راما :" نعم الرأى ما رأيت يا ماجنوم، ولكن الأمر يحتاج إلى بعض الوقت، وأنا لدى خطة ..
الخطة الذكية
فلنرسل إلى ملكهم نطلب منه أن يمد المهلة يوماً آخر حتى نشيع مليكنا المحبوب هدهود العظيم الذى ينازع الموت، وبعدها تكون لهم الخميلة بما عليها من أعشاش حلالاً لا ينازعهم فيها أحد، وفى تلك الأثناء أذهب إلى صديقي النسر شرشر أحكى له ما أصابنا وأطلب معونته على عدونا "
قال دندش : " وهل أنت متأكد من أن صديقك هذا سوف يقبل مساعدتنا؟ أم أننا قد نستبدل عدو بعدو ؟ "
قال راما : " لا تقلق يا صاحبي ان النسور تعيش فى الأعالى ولا حاجة لها بخمائلنا كما أن لى عنده جميل وأنا واثق أنه لا ينساه ....."
ترك راما جناحيه للريح صوب الجنوب قاصداً جبل أم الطيور العالي ليبحث عن صديقه شرشر، وبينما هو سارح فى طيرانه تذكر كيف تعرف على شرشر أثناء سياحته، وكيف التقاه على قمة جبل أم الطيور وكيف ارتعدت أطرافه عندما أقترب منه، ولكن شرشر طمأنه وقال له : " أننى أود أن أعبر عن إعجابي بجمال ريشك وحسن ألوانك وجمال تاجك فأطمئن راما "وأجابه" وأنا كذلك معجب بقوة جناحيك وسموك وسكناك القمم والأعالي تحلق بعيدأ فى السماء، كما أنك ماهر فى الانقضاض على فريستك !
وعرض كل منهما صداقته على الآخر وسعدا بها حتى جاء يوم أراد النسر أن يستعرض سرعته أمام الهدهد راما فأشار نحو أرنب بري رابض أسفل الوادي وقال له : " ما رأيك لو أتيتك بهذا الأرنب قبل أن تغمض جفنيك ؟ ".

الهدهد الذكى ينقذ النس القوى
فتعجب راما من قوله، ولكن شرشر قال له معجباً بنفسه " سوف ترى " .. وانقض نحو الأرنب يريد افتراسه ولم ينتبه إلى فخ أقامه أحد الصيادين بجوار ذلك الأرنب فوقع فى شباكه، فما كان من راما الإ أن هبط نحوه وحاول تخليصه، ولما لم يقدر على ذلك أسرع وجمع أصدقاءه من النسور الذين أخذ بعضهم يخيف الصياد بجناحيه ومخالبه، والآخرون يفكون وثاق صاحبهم حتى خلصوه فشكروا جميعاً لراما صنعه مع صديقهم شرشر، فلولا يقظته وسرعة تصرفه لقضى على شرشر فى تلك اللحظة ولبقى فى الأسر ذليلاً الى الأبد .
............................................................................

الاختيار الصعب
وصل راما إلى حيث وجد صاحبه فاستقبله بكل الترحاب والمودة، وسأله عن أخباره فعرض راما عليه أمره وما أصاب عشيرته من سوء، صمت النسر شرشر قليلا ثم قال : " أعلم يا صديقي أن لك عندى جميل لا يمكن أنساه، كما أن لك على حق الصداقة فالصديق يجب أن يكون عوناً لصديقه فيما قد يلم به من نوازل، ولكنك تعلم مدى اعتزاز النسور بنفسها ولا أستطيع أن أطلب من ملكنا الذهاب لمحاربة مجموعة من الغربان الحقيرة، فذلك ينقص من هيبتنا، ولكنى من ناحيتي سأجمع فصيلة من أصدقائي المقربين ونذهب معك وكأننا فى سياحة إلى بلادك ونخلصك من هؤلاء الأوغاد "
سعد راما بما رأى من صديقه من وفاء على العهد وحفظ للجميل ، وانطلقوا من فورهم نحو خميلة الهداهد.
فى تلك الأثناء كانت الغربان قد أخذت فى التحرش بالهداهد وتطلب منها سرعة المغادرة، كما قاموا بنتف ريش عدد منهم على سبيل إرهاب الباقين وإخافتهم.

المعركة الفاصلة
..... لم يمض وقت طويل حتى اهتزت أعراف الخميلة من كل جانب وكأن زلزالاً قد ضربها أو عاصفة كادت تقتلعها من جميع الجهات، وأخذ الجميع يتساءلون عما حدث ؟ ...
وما كانت تلك العاصفة الإ صوت أجنحة النسور الذى أرعب الغربان وجعلها تفر مذعورة دون قتال تاركة أعشاشها ومتاعها،فأخذت الهداهد تطاردها وتمزق من يقع فى أيديها مذعوراً وهو ما أثار عجب الهداهد فمنذ قليل كانت تلك الطيور الجبانة الهاربة لا يقف فى وجهها شئ، وهاهي الآن تفر دون أمل فى عودة لما أصابها من ذعر لدى قدوم النسور نحوها فذلك طبع كل جبان غاصب .......
سعدت الهداهد بجلاء عدوها وشكر راما صديقه شرشر وأصحابه وطلب منهم البقاء فى ضيافتهم قليلا ليستريحوا من عناء السفر، فقال شرشر : " تعرف يا صديقي العزيز ألا راحة لنا فى تلك الخمائل وأن راحتنا هناك فى الأعالي، ولكننى سأبقى طوع أمرك فى كل وقت وفى انتظار قدومك فى سياحتك كما تعودنا " وانطلق هو وأصدقاءه من حيث أتوا وسط تهليل وسعادة الهداهد.
لكن راما طلب من أصدقاءه أن يكفوا عن صخبهم وضجيجهم وأن يجلسوا ليتأملوا ما حدث لهم ويبحثوا عن سبيل عدم تكرار ذلك فى المستقبل ...


راما يضع اساس الحكم
رفرف دندش بجناحيه فرحاً وقفز إلى المقدمة وقال : " أن خميلتنا الآن بحاجة إلى وجود قائد قوي يتمتع بسلطات واسعة وقوية وحاسمة حتى يستطيع إخراج خميلتنا مما أصابها من مشاكل متراكمة على مر العصور بسرعة وحزم بعدما تعرضنا له من احتلال وحرب وخسائر "
قال سنونو : " صدقت يا دندش وهذا الأمر ليس صعباً طالما هناك راما العجيب الذى يتمتع بحب لا حدود له من شعبه كما يملك أعلى مستوى من الفكر والنزاهة والخبرة " فوافق الجميع على هذا الراى
فقال راما :" شكراً لكم يا أصدقائي ..و كم أقدر ثقتكم هذه، ولكن هذه الطريقة تثير الخوف،
قال دندش الخوف من ماذا ؟
قال راما "مصدر الخوف قد لا يكون منى أنا راما بالذات ولكن الخوف هو من نظام الفرد الواحد الذى ترغبون فى تأسيسه والذى سوف يترسخ فى الفترة التى سأحكم فيها كما حدث فى عهد ملكنا السابق المرحوم هدهود الطيب، ولكن ماذا سيحدث إذا ما حدث لي مكروه؟ سأذهب أنا ويبقى نفس النظام الفاسد، نظام الفرد الواحد، سيختفي الشخص الذي وثقتم فيه ويأتي آخر قد تكون له رؤية مختلفة تحوله إلى ديكتاتور يرى أنه مصدر الحكمة كلها فلا يسمع لأحد فيحرم الهداهد من المشاركة فى صنع حاضرها ومستقبلها، وهذا النظام كما جربناه لا يمكن أن يقود خميلتنا إلا إلى كارثة محققه ....."
قال توتو : " وما الحل إذا يا راما ؟ "
قال راما : إنى أرى أن نبدأ فى انتخاب ممثلين لجموع الهداهد يعبروا عن آمالهم وطموحهم فذلك هو الضمان الوحيد للاستمرار فى محاولة التغلب على مشاكلنا والعثور على أمثل الطرق لإصلاح أحوال خميلتنا، ثم بعد ذلك نختار زعيمنا على أن يكون من حق ممثلي الهداهد محاسبته ومناقشته فيما يتخذ من قرارات تمس مجتمعنا وأن نطلب منه أن يؤسس جيشاً قوياً يحمى خميلتنا من أى عدوان جديد، ونعمق علاقات الصداقة مع جيراننا، ويؤمن لكل هدهد عشاً ولمن لا يقدر على السعي رزقا وأمناً ، لقد طوفت كثيراً يا أخواني وصدقوني إن ممثلي الهداهد حتى لو أخطئوا فأنهم وجموع الهداهد يتعلمون الكثير من أخطائهم، .... أما أنا فأرجوا أن تعفوني من هذا التكريم وتدعوني لكي أمارس حبى الوحيد ورغبتي الأكيدة فى السياحة والسفر، على أن أعود لكم كل حين وأنقل إليكم ما رأيته من أخبار وآثار الأمم وتجاربها.... "
أعجبت جموع الهداهد بمقولة راما وأخذت تصفق بأجنحتها، وعلى الفور أخذ الجميع يعملون بهمة ونشاط في إصلاح ما تهدم من أعشاشهم والدعوة إلى انتخاب ممثلين لهم، وبعد أن تم كل شئ بنزاهة وحب قرر مجلس الهداهد فى أول قرار له إهداء راما وسام التاج الذهبي تقديراً لأعماله الخالدة فى خميلة الهداهد وتسمية أكبر شجرة فى الخميلة باسم راما العظيم،.. لكن راما بعد أن شكرهم قال : " لا يا أصحابي بل نسميها شجرة الحرية لتبقى رمزا دائما لمعركتنا الخالدة".


ت ا
انتشار الخبر
وبسرعة البرق انتشرت اخبار معركة الحرية التى قادها (راما العجيب) فى انحاء الغابة
وكانت الحمامة صاحبة الفضل فى نشر الخبر بين طيور وحيوانات الغابة واصبح الكل يتعجب هل هذا ممكن !! هل من المعقول ان تنتصر قبيلة الهداهد الضعيقة المسالمة على جيش الغربان القوى الذى لا يقهر ¬
اما العصافير الملونة ولانها شاهدة جزءا كبيرا من الحكاية بعينيها فلم يكن الخبر غريبا بالنسبة لها فطارت هى الاخرى تؤكد الخبر ونقلته الى البلابل التى اخذت تغنى حكاية الهدهد العجيب راما وتنقلها بين خميلة واخرى باصواتها العذبة فيتجمع حولها اعداد كبيرة من طيور وحيوانات الغابة لسماع تلك الحكاية بصوتها الجميل المرة بعد المرة
قال الديك الاحمر :
ان ما فعلته الهداهد بقيادة راما العجيب يعتبر درسا لجميع حيوانات الغابة خصوصا تلك التى تعيش فى ظل عبودية اخرين
لقد ذكرنا ان للحق قوة تفوق اى قوة وان صاحب الحق ما دام مصرا على استرداد ه ويعمل ما بوسعه لذلك لابد ان يحصل عليه مهما كانت قوة خصمه
فرد اللقلق الابيض جناحيه وخطا خطوتين للامام وهو يقول :
ولكن يا صديقى وحتى يتحقق ذلك لابد لنا معشر الطيور والحيوانات ان نعمل سويا وينبغى على الجميع الاخلاص والتفانى فيما يكلف به من عمل من اجل تحقيق هدف جماعتنا سواء اكان هذا الهدف هو الحرية او المستقبل المشرق لمجتمع الحيوانات السعيد الذى نتحرر فيه من الظلم او العبودية او الخوف او الجوع
صاحت البطة السوداء : احسنتم ايها الاصدقاء لقد اصبح لديكم من الفصاحة ما تعبرون به عما اريد ان اقوله واشعر به بمنتهى السهولة
قفزت الاوزة البيضاء فوق صخرة قريبة وصاحت :
ان غابتنا خصبة ومناخها طيب تجود علينا بالخيرات بما يكفى اضعاف اعدادنا من طيور وحيوانات فى اسعد معيشة وارغد حياة ولكن حتى يتحقق ذلك لابد للعدل ان يسود
زغرد الديك الرومى بصوته المحبب وهو يقول
كلامك صحيح تماما ايتها الصديقة ولكن حتى يتحقق ذلك لابد الا يسطو حيوان على ما بيد ابناء غابته مهما كانت قوته او ضعف شريكه فى الوطن
قال الديك :
هل سنقضى الوقت فى تحليل تلك المعركة ونحن جالسون هكذا اليس من الواجب ان نجمع وفدا من طيور وحيوانات الغابة ونذهب الى خميلة الهداهد لنقدم لهم التهانى ونسمع منهم ونستفيد من تجربتهم فى انشاء خميلتهم الجديدة
قال الارنب البرى الذى كان رابضا بجانب كومة من العشب الاخضر وظهر فجاة
نعم الراى ما فاله الديك وانا ساقوم باخبار من يصادفنى من حيوانات الغابة على ان تقوم الحمامة بدعوة من يصادفها من طيور على ان يكون الموعد غدا قبل غروب الشمس
وباسرع ما يمكن توجهت العصفورة الى خميلة الهداهد للاتصال بممثل الهداهد لترتيب اللقاء
وانطلق كل فى وجهته للدعوة والاستعداد ليوم الغد

كانت الهداهد قد انتهت للتو من تشكيل مجلسها وانتخاب زعيمها ولقد وقع الاختيار على الهدهد سنونو حيث حاز على اعلى الاصوات بسبب قربه من راما ودوره المشهود فى معركة الحرية
ولقد وافق على استحياء بسبب اقتناعه بحكمة راما فى البعد عن المناصب الرسمية وخوفه من الا يكون على مستوى المسئولية التى القتها الهداهد على عاتقه
فاخذ يتحدث الى الهداهد ويقول
اشكر لكم ثقتكم واختياركم لى كى اقود خميلتنا فى تلك المرحلة الهامة وانا واثق اننى لست افضل من يقوم بهذه المهمة ولكنى لا املك امام رغبتكم الا السمع والطاعة فان رايتم فى عملى صلاحا فساندونى وان كان غير ذلك فقومونى او اعزلونى
وعندما اخبرت العصفورة صديقها الهدهد توتو برغبة طيور وحيوانات الغابة فى الحضور للتهنئة بالانتصار العطيم سعد هو ومجلس الهداهد بذلك الخبر وتم الاتفاق على ان يكون اللقاء فى الوادى الفسيح المقابل للخميلة حيث الارض منبسطة والحشائش خضراء يانعة والاشجار باسقة ظليلة
واخذت مجموعة من الهداهد الشباب الاعداد لضيافة الحيوانات بتجهيز تفاحة ناضجة لكل زائر وبعض الحبوب وتنظيف مياه البركة المجاورة حتى تكون فى احسن حال لاستقبال المهنئين
الاجتماع الكبير
وبدات الامسية وكانت امسية صافية من امسيات الربيع وكانت الشمس الغاربة تلقى باشعتها الذهبية على النجيل الاخضر والحيوانات تتوافد الواحدة تلو الاخرى فحضر مندوبون عن البقر والماعز والاوز والدجاج والقطط والكلاب والبط والخيول والحمير واللقالق والديوك الرومية وابوقردان كما تجمعت البلابل والعصافير والحمام والغزلان كما كان من الغريب ان يحضر كلب البحر والدب والكنغر والبوم
عموما كل من وصلته الاخبار سارع بالحضور على الفور وتداخلت الاصوات بين خوار ومواء ونباح وثغاء وصهيل وهديل
حتى ظهر بعض شباب الهداهد واخذوا فى الترحيب بمندوبى الحيوانات وتقديم ما جهزوه من تفاح وشعير وقرطم
ثم اعتلى الهدهد دندش عضو مجلس الهداهد شجرة قريبة وقال مرحبا " اهلا وسهلا بكم اصدقائنا وشركائنا حيوانات وطيور غابتنا الزاهرة وشكرا لمشاعركم النبيلة ودعمكم لمعركتنا
ان ماوصلنا اليه ما كان من الممكن ان يحدث لولا ان وهب الله لنا قائدا وزعيما زكيا وقويا وشابا وعالما ومن اصل شريف هو صديقنا الهدهد راما العجيب فهو بجانب قوته وسعة حيلته وذكاءه فهو من اصل شريف حيث يعود نسبه الى هدهد سليمان الحكيم عليه سلام الله لذلك فهو موفق اينما كان لشرف نسبه وعراقة اصله
وهنا ظهر القائد سنونو وقام وعلى وجهه علامات الغضب واعتلى منصة الخطابة وقال
بداية اشكركم جميعا ولكنى اود ان اختلف مع صديقى دندش فيما قال
فمع اعترافنا بفضل صديقنا راما الا ان دندش نسى ان راما نفسه قد حذرنا من ان نجعل من شخص ما محور مجدنا وسبب حياتنا ونخلع عليه من الصفات ما ليس فيه بدافع الحب او النفاق
فصديقنا راما ذكى وقوى وامين وواسع الحيلة وهو ما كان من اسباب نجاحنا اما مسالة الشرف والاصل الرفيع
فكل الهداهد شرفاء وجميعهم من اصل واحد هو هدهد الاول ولا فضل لهدهد على هدهد الا بما يعمل ويقدم لعشيرته وليس بمن هو ابيه ولا من هى امه
لقد كان راما بصدره الذى يتسع للجميع يحلم بان هذه الغابة بكل ما تحويه من جمال وخيرات ملك لجميع شعوبها

الزائر الغريب
وفجاة وقبل ان ينهى سنونو كلمته ظهر حيوان غريب لم يسبق ان راه احد من قبل يغطى جسده بمعطف من الصوف ويخفى وجهه بلثام من الجلد وتبدو عليه امارات الثقة والمهابة والطيبة والوقار والحكمة
وقف على ربوة عالية بعيدا عن ساحة اللقاء وقال باعلى صوته
اخوتى واخواتى حيوانات الغابة وطيورها الاعزاء لقد سعدت مثلكم بما حققه الهداهد وامنت بكل ما جاء به راما العطيم من حكمة ودعوة للتسامح ورغبة فى العيش فى سلام
وهى المبادى التى افنيت حياتى من اجل تحقبقها لذلك احب ان اقدم لكم اليوم مشروعى الذى عكفت على انشائه سنوات وسنوات حتى ان اغلبكم لا يكاد يعرفنى بسبب انشغالى بهذا المشروع عما سواه انه جنه الحيوانات
لدينا بحيرة كبيرة من الماء العذب للشرب واخرى للعوم والاستحمام كما ان فيها جميع الاصناف من الاعشاب الخضراء والجافة واكوام من الشعير وجبال من السكر وزهور من جميع الالوان ولها هواء منعش وربح طيبة وظللها ظليل كما ان بها مشفى للحيوانات يقوم عليها مجموعة من امهر الاطباء من اخوانى كما ان لدينا صالونا لحلاقة لتهذيب الاصواف والشعور هذا غير صالة للالعاب الرياضية واخرى للاصواف والفراء لمن يرغب فى تغيير مظهره
فعلى من يرغب فى تشريفنا والانضمام الى جنتنا ان يتبعنى فور انتهاء الاحتفال لتسجيل الاسماء وشكرا لكم واهلا بكم
قالت الحمامة البيضاء :ترى من يكون هذا السيد اللطيف الذى لم نره من قبل
قال الارنب : لا يهمنى من يكون المهم انه سيقدم لنا حياة رغدة وبلا مقابل
وافق الديك على كلام الارنب واقنع الماعز التى كانت ما تزال مترددة فى قبول العرض والتى بدورها اقنعت الحمار والحصان بالذهاب خلف هذا السيد الكريم لتجربة النبع الصافى وتذوك عشيه اللذيذ وهم الجميع بالانصراف وسادت جلبة واضطراب فى ساحة الاجتماع
حتى صاح الهدهد توتو قائلا
مهلا يا اخوتى ارجو ان نتروى قليلا حتى نتيقن من حقيقة الرواية
وانى لارى بثاقب بصرى هدهدا قادما من بعيد واظنه صديقنا راما العجيب صاحب الفضل فى ثورتنا والذى جئتم من اجل مقابلته فالتهداو قليلا حتى تقابلوه
وقفت الحيوانات على مضض تتململ وتريد الانصراف بسرعة كل يرغب ان يكون اول من يدخل الجنة الموعودة
حتى وصل راما العجيب يرف بجناحيه ويحاول ان يلتقط الانفاس بسرعة
فوقف على منصة الخطابة وقال
مرجبا بكم يا احبابى واصدقائى كنت اود ان اكون فى استقبالكم حتى احدثكم عن معركتنا الخالدة ولكنى ارى ان اذكركم بحكمة غالية طالما لقنها لنا الاباء والاجداد وهى الا نصدق كل ما يقال لنا وعلينا ان نستوثق مما نسمع حتى لا نورد انفسنا موارد التهلكة ان المعركة لم تنتهى ولن تنتهى
اعرف ان جميعكم يرغب فى الانصراف الان للجنة الوعودة التى حدثكم عنها السيد ذى المعطف ولكن اتعرفون من هو السيد صاحب الجنة الموعودة ذلك الشخص الطيب المهيب
انه صديقكم الذئب !!!!!!
رايته على حافة الغابة يتفق مع قبيلته كيف ينصب لكم فخا متقنا واتفقوا على تلكم الخطة الماكرة ليغتالوكم فى يوم عيدكم
وجهت الحيوانات والطيور ابصارها تجاه الربوة التى كان عليها السيد المهيب فوجدوه قد القى معطفه ولثامه واطلق ساقيه للريح
فانطلفت الكلاب والحبوانات والطيور فى اثره بعضها تركله باقدامها واخرى تعضه باسنانها وثالثة تنقره بمناقيرها ورابعة تنطحه بقرونها حتى فر من امامها وجسده ملىء بالجراح
ضحكت الهداهد لمنظر الذئب الماكر وجسده الدامى وفراره امام البط والاوز و قالت
ان لنا معك فى كل يوم درسا يا راما الحبيب دمت لخميلة الهداهد ولغابتنا غابة السلام والحرية

تمت

الثلاثاء، يوليو 06، 2010

الثلاثاء، يوليو 07، 2009

مؤتمر إقليم شرق الدلتا ( الدورة 8)


مؤتمر إقليم شرق الدلتا ( الدورة 8) : مشاكل روتينية وأبحاث قيمة وهروب من الإقامة المؤلمة!

تغطية : سمير الفيل

]
محمد عبدالله الهادي



أ.د. صابر عبدالدايم


مؤتمر تأجل أكثر من عشر مرات كان ينبغي أن تحتشد له كافة الإمكانيات ليخرج إلى النور في أحسن صورة ، لكن ما حدث أن الأمانة قد اجتهدت وحاولت تقديم مجموعة من الدراسات النقدية المهمة ، ولكن التنظيم من مسكن وإعاشة وتنظيم جلسات جاء مرتبكا لدرجة غير مسبوقة.
المؤتمر الذي عقد في الفترة من 2 إلى 4 يوليو 2009 بقصر ثقافة الزقازيق لم يقتصر بالطبع على السلبيات التي سنذكرها في حينه فهناك مجموعة من الإيجابيات لا يمكن إنكارها لكنها بدت شاحبة في مقابل نفس المشاكل الروتينية التي صارت سمة من سمات مؤتمرات إقليم شرق الدلتا الثقافي.
* أفتتح المؤتمر ظهيرة الخميس 2 يوليو 2009بمسرح قصر ثقافة الزقازيق مكيف الهواء ، وقد كانت التأجيلات المتتالية لتأمين المسرح ضد أخطار الحريق ، وقد صارت هذه حجة لتعطيل المراكب السائرة فكلما أوشكنا على إقامة فاعلية في مكان ما فوجئنا بجهات الأمن وبالتحديد الدفاع المدني تقف حجر عثرة في مواجهة إقامة الأنشطة بحجة تأمين المكان ، ولا نعرف أين كانت هذه الأجهزة عندما حدثت محرقة بني سويف منذ سنوات؟!
* تحدث في الافتتاح القاص ابراهيم عطية ـ وهو للأمانة قام بجهد فوق الطاقة للتغلب على مشكلات عديدة كانت تحاصر المؤتمر بالفشل ـ وجاءت الكلمة مناسبة ، وتلاه الدكتور صابر عبدالدايم رئيس المؤتمر في كلمة طويلة جدا تضمنت توصيات تبنى بعضها لجنة الصياغة في اليوم الأخير.
أما مصطفى السعدني رئيس الإقليم فقد تحدث عن إنجازات ونشاط الإقليم،
وتلاه الدكتور أحمد مجاهد رئيس الهيئة العامة لقصور الثقافة ، وأخيرا جاءت كلمة المستشار يحيى عبدالمجيد محافظ الشرقية تلقائية وبسيطة .
* وقف الأديب نبيل مصيلحي في جلسة الافتتاح ، وأعلن عن عدم وصول المكافآت الخاصة بأنشطة الأدباء وهو ما كذبه رئيس الإقليم بالمستندات ، وقد حدث شد وجذب بين المنصة والصالة حتى عادت الأمور لنصابها.
تم تبادل الدروع وشهدت الجلسة تكريم عدد من الأدباء الذين قدموا إنجازات حقيقية . هم الروائي محمد عبدالله الهادي والشاعر عم مامون كامل والأديب طه مقلد ، والشاعر الراحل عبدالسلام سلام ، واسم الراحل القاص يوسف أبورية . وهي فقرة مؤثرة لأنها تعني تذكر المؤتمر لمبدعيه الذين أفنوا العمر في خدمة الكتابة .شهادات تقدير ودروع دون مكافآت مالية وهو ما ينبغي أن يقدم لمن بذل جهدا لفكرة الكتابة .
* فرقة الشرقية للفنون الشعبية قدمت فقرة فنية وصعد المحافظ ورئيس الهيئة على خشبة المسرح وتم اختيار أغنية " دقوا المزاهر.. يا أهل البيت تعالوا .. جمع ووفق .. صدق اللي قالوا" ولا أعرف ما صلة الأغنية بمؤتمر أدبي . لكن لله في خلقه شئون.
* مشكلة المشاكل في مؤتمرات إقليم شرق الدلتا هي عدم توفر حقيبة الأبحاث التي تضم الكتاب الذي هو ذاكرة المؤتمر ، وحتى مساء اليوم الأول تم اختفاء المسئولين حتى قام الشاعر علاء عيسى بالانسحاب مع مجموعة كبيرة من الأمانة والتفاوض مع المسئولين ، وذلك لتوزيع الحقائب وحدث فعلا حضور المسئول ووزعت الحقائب بدون كتاب الأبحاث.
* أما فيما يخص فرع الشرقية فقد قام بالوفاء بوعده بتوزيع الكتب العشرة التي يصدرها المحافظ على نفقته.ووزعت بشكل مشرف يشكر عليه مدير الفرع محمد صلاح مرعي والنشط جدا الشاعر أحمد سامي خاطر .
* أجمل محاضرة شهدها اليوم الأول هي التي قدمها الشاعر أحمد عنتر مصطفى بعنوان " مرسي جميل عزيز شاعر الألف أغنية " وفيها قدم تسجيلات صوتية للأغنيات النادرة التي اختارها بصوت كل من فيروز ونجاة الصغيرة وعبدالحليم حافظ ومحمد قنديل وفايدة كامل ، وعبدالعزيز محمود ، وآخرين . وقد لمست تجاوب الجمــهور مع هذه الفقرة تجاوبا شديدا .
كان الدكتور مدحت الجيار هو من يدير هذه الجلسة البحثية الأولى ، وقد ضمت بحثين كذلك.
* الدكتور شريف الجيار قدم بحثا حول الرواية بعنوان" تجليات السارد في ذاكرة الوطن الروائية " ، وتناول الأعمال التالية : " وقائع جبلية . المتعاقدون " لفكري داود ، " ليالي الرقص في الجزيرة " لمحمد عبدالله الهادي ، " غرابيب سود " لمحمد البيومي ، الرقص على طبول مصرية " لفؤاد حجازي ، " وميض تلك الجبهة " لسمير الفيل . وتميزت دراسة الجيار بإحكام نقدي واضح.
* الشاعر البورسعيدي السيد الخميسي قدم دراسته بعنوان " تجليات الذاكرة الوطنية في الإبداع " وفيها عرج على كتاب " شعراء الوطنية في مصر " لعبدالرحمن الرافعي ، وتماس مع أغاني السمسمية عند شعراء المقاومة كما نرى عند شاعر مخضرم هو محمد فايز جلال ، وغيره.
* ألغي عرض أوبريت شهر زاد لفرقة الشرقية القومية المسرحية وكانت مناسبة لعقد ندوة شعرية قدمت خلالها أصوات من أجيال مختلفة ، وأدارها الدكتور مدحت الجيار نفسه .واستمتعنا فيها لأصوات رائعة لمحمد غزالي ومحمد الشهاوي وصابر عبدالدايم وأحمد عنتر مصطفى ، وفريد طه ، وغيرهم.
* في الجلسة الثانية التي عقدت صباح الجمعة ، أدار فؤاد حجازي جلسة بحثية تضمنت عدة دراسات ، منها :
ـ أحمد رشاد حسانين ، الذي قدم دراسته " من تجليات الإبداع القصصي في الشرقية " وتضمنت قراءة في الأعمال التالية : " صيد المطر " لإبراهيم عطية ، " وقائع تجريد الخيول " لأحمد محمد عبده ، إمرأة وألف وجه " لمحمد عبدالله الهادي ، " تعظيم سلام " لنجلاء محرم ، " الحقيقة المرة " لمحمود أحمد علي.
ـ سمير الفيل قدم دراسته" الذاكرة الوطنية وانعكاسها في النصوص السردية بالإقليم . مستويات التجربة في بعديها الذاتي والعام" وتناول أعمالا لعدد من كتاب القصة القصيرة بالإقليم ، هم : محمد عبدالله الهادي ، محمد خليل ، إبراهيم عطية ، حسام المقدم ، فؤاد حجازي ، الدكتور محمد عبدالحليم غنيم ، صلاح هلال ، عبد الفتاح الجمل ، محمد شمخ ، محسن يونس ، فكري داود ، محمد خيرت حماد ، محمود الديداموني ، فرج مجاهد ، سمير المنزلاوي ، أشرف عبدالمطلب ، محمود أحمد علي.
ـ الدكتور عزت جاد الأستاذ بكلية الآداب ، جامعة حلوان قدم دراسة بعنوان " في شعرية الشعر " قراءة في ديواني خاطر والمتولي.
سنثبت هنا العنوانين الجانبيين للدراسة :
أحمد سامي خاطر : ( كل الجهات أنا.. يا إلهي ) .. شعرية القوة الناعمة.
ممدوح المتولي : ورع الغواية ، شعرية المخاتلة.
وقد تضمنت نفس الجلسة شهادتين لكل من السعيد نجم عن الدقهلية ، وطلعت الهابط عن كفر الشيخ.
* جلسة بحثية ثالثة احتشدت بعدد كبير من الباحثين ، وأدارها القاص محمد خليل ، وتضمنت:
ـ العربي عبدالوهاب . السرد الروائي في الشرقية ( لم يتضمنها كتاب المؤتمر ووزعت في مذكرة منفصلة رغم الجهد الواضح المبذول فيها ) وتضمنت قراءات كالتالي : رواية ( السلام عليكم ) للشاعر والروائي صلاح والي. رواية ( النحات المحارب ) لعبدالرحمن بكر ، رواية ( نصف ساعة أسفل الممر ) لأميمة عز الدين .
ـ محمد عبدالحافظ ناصف . " صورة الوطن في أدب الطفل " ، وتناولت الدراسة قراءة في أعمال متعددة ، منها : " كوخ صغير . شجرة كبيرة " لعزت إبراهيم ، حكايات وحواديت " لصبحي سليمان ، " ولد يرى بعيون عنكبوت " للكاتب محمد فاروق مصطفى ، " سارة تقابل القمر " لعبد الحكيم محمود.
ـ أحمد سامي خاطر . صورة الذاكرة بين المحو والتشكيل في الشعر المعاصر. الشرقية نموذجا" . وتناول
أـ موتيفة الأرض / الأم / المدينة . تأصيلا لفكرة الهوية في نماذج من دواوين : " الرؤيا والوطن " لصلاح والي ، " إشراقة " لرضا عطية ، " وازمان الوصل " لمحمد سليم الدسوقي ، قصيدة " الخروج " لصلاح عبدالصبور.
ب ـ موتيفة المنفى ،، وتعدد أشكال الغياب : ديوان " العذراء لم تعد مساء " لعبدالله عرايس ، ديوان " تراتيل المساء " لأحمد السلاموني ، ديوان " مكاشفة " للسيد زكريا .
ج ـ ثنائية الموت / الوجود . نفي الذات وإثباتها : ديوان " إيقاعات الغرفة " لفؤاد سليمان مغنم ، ديوان " ألوان من سلالة الريح " للدكتور عزت جاد ، ديوان " كتابة تخصني " لهشام محمود زاهر .
ـ محمود الديداموني . " ملامح إبداعية " قراءة في شعر العامية . الشرقية نموذجا. تناولت الدراسة أعمالا لعدد كبير من الشعراء ، نذكر منهم : الدكتور محمود عبدالحفيظ ، فريد طه ، أحمد النحال ، علاء عيسى ، ابراهيم حامد ، مأمون كامل ، نبيل مصيلحي ، إبراهيم مصطفى ، أحمد الخولي .
الدراسة نفسها تحددت بعناصر فرعية هي : المقاومة عنصر إمداد ، التراث والموروث ، تجليات الواقع في الريف المصري ، الخوف والبحث عن هوية ، الغربة والخيانة عنصران متلازمان ، التشكيل الموسيقي ، القصيدة والقصة ، الصورة الشعرية.
* جلسة بحثية رابعة . أدارها القاص المجتهد فكري داود. تضمنت باحثا واحدا هو الدكتور محمود عبدالحفيظ . وقد قدم دراسته " شعر العامية المصرية . جمهوره وجمالياته . قراءة في أربعة من شعراء دمياط" . الشعراء هم : أبوالخير بدر عن ديوان" طقوس " ، محمد العتر عن ديوان " كلام للطين " ، عبدالعزيز حبة عن ديوان " حمل الزمان أكبر" ، أحمد الشربيني عن ديوان " مواسم الأحزان " ، وهو بحث قوي متميز وللأسف لم يحضر أحد من الشعراء الأربعة الجلسة البحثية وإن حضر الساردون الدمايطة الذين عبروا عن ترحيبهم بالدراسة الموثقة .
* ندوتان شعريتان أقيمتا في اليوم الثاني للمؤتمر. الأولى في " نزل الشباب " ، وأدارها الشاعر نبيل مصيلحي ، والثانية في قصر ثقافة منيا القمح وأدارها علاء عيسى.



يوسف أبورية




على هامش المؤتمر:

* التأجيلات الكثيرة أدت لغياب عدد من الباحثين والأدباء منهم الشاعر عيد صالح من دمياط والشاعر فريد طه من الشرقية وإن كان الأخير قد حضر اليوم الأول كما تغيب الباحث الدكتور محمد حسن جبر الذي كتب عن المسرح بالإقليم.
* وقع كتاب الأبحاث في 344 صفحة ، وتضمن الدراسات النقدية والشهادات ، ونبذة عن المكرمين.
* حضر جلسة الافتتاح عدد من الصحافيين منهم مصطفى عبدالله بالأخبار ، ويسري السيد عن الجمهورية ، ومن قيادات الهيئة الشاعر محمد أبوالمجد وغيرهم.
* كانت الإقامة فقيرة جدا في " نزل الشباب " الذي يطل على استاد الزقازيق ، والمواصلات من مقر الإقامة للقصر ضعيفة مما جعل أمين المؤتمر ورئيسه يعقدان جلسات اليوم الثاني بالنزل بلا كوب شاي واحد أو قارورة ماء مثلج اكتفاء بالمراوح المعلقة في السقف .
* الشراقوة كما هم دائما " جدعان " فقد ساهما في التخفيف على الحضور بتدخلاتهم المعهودة والاحتكاك بالبيروقراطيين لاقتناص حقوق المؤتمرين .
* عدد من الشخصيات العامة تواجدت بالمقر وشاركت في المداخلات من بينها الكابتن محمد غزالي والروائي علي المنجي من السويس ، والقاص قاسم مسعدعليوة والسيد الخميسي وأحمد رشاد حسانين من بورسعيد .
* شعراء وشاعرات لمعوا في الامسيات الشعرية منهم : محمد الشهاوي ، ممدوح المتولي ، صلاح محمد علي ، تقى المرسي ، شيماء عزت ، د. صابر عبدالدايم ، فريد طه ، أحمد الشربيني ، محمود الشرابي ، علا بركات وغيرهم .
* الكتب المطبوعة بالإقليم كان مقررا توزيعها وحجبت لأسباب لا نعلمها ، ومنها مجموعة قصصية لصديقنا الدسوقي البدحي الذي حضر خصيصا ليفرح بكتابه" عربة تجرها الموتى " ! وعاد بلا نسخة واحدة .
* مجلة الإقليم " أوراق ثقافية " التي يرأس تحريرها الكاتب الكبير فؤاد حجازي ، لم توزع في المؤتمر ، وحصــلنا على نسخة منها باجتهاد شخصي .
* الروائية نجلاء محرم صاحبة جائزة القصة القصيرة تواجدت في أروقة المؤتمر وحظيت باهتمام كبير من الأصدقاء .
* توصلت الأمانة لمجموعة من التوصيات المهمة من بينها : استمرار رفض التطبيع مع الكيان الصهيوني ، التأكيد على حرية الفكر والتعبير والاعتقاد ، الدعوة لإنشاء هيئة للذاكرة الوطنية ، رفض إعادة تمثال ديلسيبس في مدخل القناة والدعوة لوضعه في إحدى متاحف القناة مع تشييد تمثال للفلاح المصري على القاعدة ، التنبيه للأخطار المحيقة بمنابع النيل في عمق أفريقيا ، دعم صمود الشعب الفلسطيني ، إطلاق أسماء الأدباء الراحلين على الشوارع والميادين ، زيادة مخصصات نوادي الأدب ، وغيرها من توصيات.
* استمر المؤتمر يومين بدلا من ثلاثة، ولم ترق الإقامة لعدد كبير من الكتاب الذين غادروا الزقازيق بعد اليوم الأول .
* تحية واجبة للمستشار يحيى عبد المجيد الذي يمول مشروع " سلسلة خيول أدبية " . وقد أصدرت الكتب التالية ، ووزعت مجانا على الحضور:
خلف الزقاق . رواية. محمد فاروق مصطفى.
تواصل العطش . قصص . محمود أحمد علي .
عرس صغير لشجرة. قصص . عبدالعزيز عبدالمعز دياب .
عودة النوق العصافير. مونودراما. عبدالله مهدي .
بستان الرحمة. شعر. محمد سليم بهلول.
على مرسى الدموع. شعر. نبيل مصيلحي .
فصول من الاستسلام والمقاومة . شعر. رضا عطية.
عزف على وش الأشجان. شعر . الشوادفي الباز.
أمرأة العزيز . شعر . محمد سمير عشري.
عزف النسائم . شعر. صلاح محمد علي.
من المعروف أن هذه السلسلة تصدر بالتعاون بين هيئة قصور الثقافة وديوان محافظة الشرقية وبدعم من المحافظ شخصيا.
* سوق الكتب :
السراية . رواية. محمد خيرت حماد.
طيف في مرآة الذاكرة . شعر. حسين علي الموافي.
أما بعد. شعر. طلعت أبواليزيد الهابط.
دموع الناي . شعر . طلعت أبواليزيد الهابط.
امرأة غير صالحة للاستعمال الآدمي ., قصيدة . علاء عيسى.
محلك سر . قصيدة. علاء عيسى.
خيانة . شعر. علاء عيسى.
المتعاقدون. رواية. فكري داود.
* الدراسة التي قدمها الدكتور محمد حسن جبر في الكتاب ولم يحضر الجلسة البحثية للعرض والمناقشة كانت بعنوان " المسرح ورؤى التجديد . نماذج من إقليم شرق الدلتا " . اعتمدت الدراسة على عينة تكونت من المسرحيات التالية : " صيد المطر " لإبراهيم عطية ، " يوم إعدام الفقراء" لمحمد لطفي ، " ممثل لكل الأدوار " لمحمود كحيلة ، " الحوائط " لمحمود لطفي ، " عودة أصحاب الرؤوس السود " لعبدالله مهدي ، " ألوان من البشر " ، " المطاردة " ، " عيادة الغلابة " ،" قطر المحبة " ، " احتفالية شرقاوي " لرمضان فؤاد ( من الشرقية) ، " انتفاضة ترعاها السماء " لعبدالعزيز اسماعيل ، " عصافير خضراء " ، " أوراق خاصة " ، " المدينة الجديدة " لناصر العزبي ( دمياط) ، " ذئاب بني مروان" لمحمد خليل ( الدقهلية) .
* للتوثيق . أمانة المؤتمر : إبراهيم عطية ، الدكتور صابر عبدالدايم، أحمد سامي خاطر ، أحمد محمد عبده ، بهي الدين عوض، سمير الفيل ، صلاح والي ، علاء عيسى ، العربي عبدالوهاب ، محمد فاروق ، محمد الأطير ، الدكتور محمد عبدالحليم غنيم ، محمود الديداموني ، محمود أحمد علي ، محمد عبدالله الهادي ، محمد خليل ، ممدوح المتولي ، فريد طه ، فؤاد حجازي ، نبيل مصيلحي .
* كلمة أخيرة:
لقد اجتهدت أمانة المؤتمر وعملت ما عليها . وها هو المؤتمر الأدبي الثامن للإقليم ينتهي بكثير من المشكلات الإدارية المعقدة . من المفترض تراكم الخبرات التنظيمية والإدارية غير أن الحادث هو البدء كل مرة من نقطة الصفر ، وهو ما ينبغي الالتفات إليه في المؤتمرات القادمة حتى نضمن حسن تسيير الأمور وإزاحة القبضة البيروقراطية المهيمنة.

وإلى اللقاء في مؤتمر قادم بإذن الله..









سمير الفيل
كاتب مصري
Samir_feel@yahoo.com
مدونتي :
http://samir-feel.maktoobblog.com/

السبت، يونيو 13، 2009

عــزَّاف النــار - بين التـأويـل وتيـار الشعـور (رؤية موازية ) احمد سامى خاطر

دراسة نقدية لمجموعة قصصية صدرت للأديب المصري / العربي عبد الوهاب


عندما شرع الكاتب الروسي جو جول في قراءة إحدى قطع شرائح روايةٍ لم يكن قد استكملها بعد على زميله الشاعر الروسي الشهير بوشكين ؛ وفى إحدى مساحات الصراع النفسي الإنساني في الرواية أشار الثاني بيده إشارة الاكتفاء مقاطعاً بعذابٍ عظيم يا إلهي .. كم هي معذبة روسيا هذه .

وعلى الرغم من أن بوشكين كان يعلم ما قد وصل إليه المجتمع الروسي من ترديه الاجتماعي والسياسي والطبقي في عصرٍ أشبه ما يكون في تلك الحقبة بالمجتمعات الشرقية التي كانت تعاني الأزمة بكل مناحيها الاقتصادية
والاجتماعية والنفسية ، إلا أنه قد أثير أمام قسوة تجسيد جو جول لهذا المجتمع الذي وضعه في إطارٍ دلالي ونفسي بعد أن عالجه بقوة الصدق في العرض وابتعد به عن مغالاة وجمود الواقع ذاته ؛ والذي لا يصلح بمفرده أن يكون فناً أو إبداعاً على الرغم من مادته التي تشكل المادة الخام لتجسيد هذا الشعور الذي وصل بـ بوشكين لحد الشفقة على المجتمع الروسي 0

إذن .. على الرغم من أن الحياة هي المحتوي القابل لاحتواء كافة الفنون فعلينا أيضاً أن نعتبر بالمثل أن
الإبداع يمثل المحتوي الخاص والمعقد لاحتواء الحياة .. ولن يتأتى ذلك صراحةً إلا بعد اختزان هذه الحياة وإعادة
وضع صيغا أخري لها تضمن ذلك القدر من التأثير ، وإثارة الوجدان وجعل هذه الحياة – العادية جداً – بكل تفصيلاتها تبدو كأنها غريبة أو جديدة يدركها الإنسان بطريق الإبداع كما لو كان يتعرف عليها لأول مرة كما أثار جو جول في نفس زميله بوشكين تماماً الأمر هنا لا بد أن يكون أكثر دقة وتخصيصاً ، إذ ينبغي أن نستثني ذلك النمط أو ما يسمي بالسائد العام والمعتاد في الحياة ، والوقوف على أدق التفصيلات النفسية التي
يعجز العاديون أمام تفسيرها ؛ وهو ما قد يظهر جلياً في الفن على إطلاق عموميته وعلى فن القص بشكل أكثر دقةٍ وخصوصية وتعميقاً ؛ من خلال التعريج علي لحظة مسروقة بمهارة لا تخلو هذه اللحظة غير العادية من إدراك لغة توفيقية ملاءمة ، واصطياد موقف فذ إشارة بمراحل الوقع ثم الأثر الذي يخلفه ذلك الوقع في نفس المتلقي .

وعلينا في البداية والنهاية أن نصيب الهدف بأسرع ما يمكن وبأقل الوسائل وأوفرها ، إنها دربة وقوة ومعايشة أو
فلنقل صراحةً : إن فن القص هو فن إتقان الحياة ، إنه أشبه ما يكون بطلعة جوية سريعة وخاطفة يتحقق من خلالها ذلك الهدف المنشود .

ولقد أصاب ذلك الهدف كثيرون في أجيال مختلفة ومتلاحقة ممن فجروا من المشهد اليومي العادي بأحداثه النمطية المعتادة ذلك الانحراف النفسي بحثاً عن موقع الإنسان فيه وسط جلبة التراكمات اللا حصر لها ووسط حلبة الصراع الذي لا ينتهي بدءً من الإنسان نفسه كمحورٍ بين كائنات ورموز وأماكن وأزمنة ومعادلات ومعطيات ومروراً بالعلاقة بينه وبين الأشياء التي تبدو بسيطة ومعقدة في ذات الوقت وانتهاءً بأخذ موقفه الأحادي من العالم المحيط به 0

هذه ليست مقدمة لاستشراف عالم قصصي جديد بقدر ما هي مدخل أمهد فيه عن موقع القص بين باقي فنون القول متخذاً من مجموعة (عزاف النار)(1) للكاتب : العربي عبد الوهاب تكأة أو تطبيقاً لعددٍ من التنظيرات التي فرضت نفسها في الآونة الأخيرة علي ذلك الفن الجميل 0 محاولاً بذلك الاقتراب من عالم القص عند العربي من خلال مجموعته الأولي التي صدرت عن الهيئة العامة لقصور الثقافة في عددها الخامس والسبعون . كما أصنع لنفسي متسعاً أكثر رحابة للتعريج على سواحل القصة القصيرة بمفاهيم تتراوح
بين الاختلاف والاتفاق مع السائد العام ؛ والذي يدور حول صفة النص القصصي وعناصره الفنية القديمة والمستحدثة ، وقضايا التوليد والتأويل التي انتقلت من الشعر إلي القص مؤخراً ، وقد يكون اختيار مجموعة (عزاف النار) أمراً به الكثير من التعمد الذي لا يخلو أيضاً من الترصد لكاتب من جيل التسعينات تداركاً لئلاً يسقط هذا الجيل تباعاً في وادي النسيان مهملاً ، كما لا يفوتني أن أنوِّه بأن الدراسة سوف تتسع لتضم عدداً من كتاب القصة القصيرة المتميزون في هذا الجيل ممن لديهم قدرة استجلاب بصيرة جديدة تطل من نوافذ بكر لاستكشاف ورصد كل ما هو جديد ومبتكر في فن القص شكلاً ومضموناً .

تضم مجموعة (عزاف النار) ثلاثة تقسيمات يتفرع من كل قسم عدد من القصص ذات الحجم القصير نسبياً في معظمها (الصحراء)(رائحة الأشياء)(عزاف النار) ، وربما كان لهذا التقسيم مبرراً في نفس الكاتب تداركاً منه للفصل بين نصوص البدايات والوسط والنصوص الحديثة نوعاً وهذا أمر مشروع سيما في الإصدار الأول للكاتب والذي يخضع فيه الترتيب دائما لحاسة توفيقية توازن بين نمط ورؤية كل نص وبين الهدف أو المرمي أو القصد أو الوقع أو الأثر الذي يحدثه تباعاً في نفس المتلقي وتلك دربة ومهارة أخرى .

إن الدخول لعالم قصصي جديد من شأنه أن يستجلب معه العديد من الاطروحات والأسئلة أهمها على الإطلاق ما هو الهدف العام ؟ أو بمعني آخر ما هي شرعية وجود النص ؟ ، أو نستطيع الطرح على عمومية إطلاقه وبمنحي نفسي إكلينيكي بحت ما هي القوي النفسية الدافعة للدخول في هذا الفضاء وبهذه الكيفية وهذا النمط بالذات ؟ لاشك أن المسألة تحتاج لبرهان مقنع من قبل الكاتب نفسه ، إذ سرعان ما تتغير وتتبدل الاتجاهات ويرسو النص القصصي في النهاية على لاشيء أو تستقيم المعطيات لتؤكد المطلوب مبرهنة على دافع قوي كان وراء كتابة ذلك النص القصصي الكائن .. من نقطة ما على البر يبدأ الناس طريقهم إلي السفينة لتحملهم
فوق الأمواج .. إنها تعني بداية رحلة في المجهول رغم معرفة القصد الذي لا يصلون إليه أحياناً (2) .. نعم
إنها رحلة في المجهول ، وربما كان ذلك بداية تنشئة إحساس عام فرض نفسه على بعد قراءة المجموعة عدة مرات ، واتخذت منها موقفاً نفسياً دعاني لاتخاذ قرار بضرورة التعامل مع هذه النصوص من زاويتين هامتين 0

الأولي : زاوية تيار الشعور (المنولوج) داخل معظم نصوص المجموعة 0
والثانية : زاوية الرصد النفسي بين التأويل والتوليد لخلق رؤية موازية ليست بالضرورة أن تفضي إلي الرؤية التي عمد إليها الكاتب نفسها ، فهذا المنهج التحليلي والتأويلي يلغي قصد المؤلف ؛ لا بهدف فصله عن نصه فقط دون بديل منتج بل لمعاينة القصد الحقيقي الذي تبوح به النصوص الخاضعة لمؤثرات هائلة ليس قصد المؤلف إلا واحداً منها في حساب الفروض والاحتمالات (3(.

هذا الطابع يبدو ظاهراً في أغلب قصص المجموعة فنجد قصة (آية الصحراء) تتجاوز حدود اللغة الهادئة والطيعة والقصيرة إلي فضاءات أكثر وطأة لدلالة الطبقية وما لها من سطوة على مقدرات ذلك الإنسان التائه في الشوارع وبين إشارات المرور والعربات والملامح المكتنزة والضاحكة والساخرة في ظل التجسيد القوي للمعتقد الطبقي الغالب في مجتمع هو أشبه في رحابته بصحراء شاسعة وفي سلطويته بازدحام إشارات المرور التي تحول دون وصول أصحاب الأحلام البسيطة في المجتمع إلي مراميهم العادية التي قد تكون لحظة مسكونة بالتحقق في عين هذه الأخرى التي تتناهي وتتحلل ككل الأشياء الظاهرة لتختلف في عين ذلك الباحث عن
نفسه والمترقب لحال جديد .. إنه البحث .. البحث حتى الهلاك .. الجنون .. صفعة الحبيبة .. خيانة الصديق ..
سماجة الشرطي .. العربات الفارهة .. الأعين الموحشة .. الألسنة الخارجة من الأفواه ؛ حتى تسقط دمعة على الرمل ، وتكون الإجابة أضيق من سم خياط في يد عجوز خذلته العيون الحادة القادرة .. إن قصة (آية الصحراء) وقصة (عصفور) وقصة (الممر) و(اسم جديد للألم) (مخلوقات الطين ) و(صورة لا تشبه الأصل) تعد حالات قصصية أكثر منها أبنية أو محتويات سردية بالمعني الوظيفي لعناصر القص ؛ من هنا كان التجاوب مع اللحظة من منظور إنساني/أخلاقي ، أو اجتماعي /طبقي مؤشراً دالاً على طغيان تيار الشعور (المنولوج) النفسي والوجداني داخل النسق القصصي عند العربي عبد الوهاب ، وربما ساهم المنولوج بقدر وفير في تشاعر العبارة وقصرها وإغلاقها أحياناً ، وتشاحن العناصر المتحركة داخل السياق القصصي دون ترتيبها وتنميقها لتعطي بعداً عفوياً للصدق في التجاوب مع عدة لحظات هاربة تكمن جميعها في الطرف الآخر وهي المرأة متعددة السمات في كل قصة 0

وهذه الصيرورة التي تحكم غالبية قصص المجموعة تدفعني نحو إعادة البحث عن الفكرة الأساسية لكل قصة ، ومدي تنوعها وليس مجرد استنتاج رؤى وتوليد دلالات وتأويل عوالم من الرتوش والإشارات فهذا من شأن القصيدة بالدرجة الأولي لا القصة ، ففي القصة مهم للغاية أن يكون لدينا شيء يقال ، شيء جديد ومختلف كزهرة تتفتح في الحال (4( فنري قصة (عصفور) في التصنيف الأول يعرج الكاتب على الحالة القصصية بلسان حال عصفور صغير لا يمل البحث عن قدرة لمواجهة ذلك الخطر الداهم والدائم والمتمثل في قوي
الدمار والفناء التي تهدد أمن المخلوقات الضعيفة في المجتمع البسيط ؛ حيث لم يجد بداً من الفرار بعيداً عن
الطلل البادي كأنه انتهاء حتمي له كما كان لأبيه من قبل ؛ وكذا أقرانه الموطوءين بالأقدام .. إن القصة تريد أن
تضع لمسة إنسانية عميقة على فكرة الأمان في أحقية ذلك المخلوق الضعيف أن يحيا بلا مصادرة .. بلا رصاص .. بلا رصد .. بلا رجال يقتلعون الأشجار لإقامة كورنيش دون أدني مراعاة لعشرات العشوش الآمنة .

إن هذه الحالة تؤكد مدي تعاظم هذا الشعور في نفس الكاتب إزاء المجتمع الأكثر عمومية بالنظر في عين العصفور الهارب إلي إرادة يتحقق عندها العدل والأمان في المجتمع الإنساني . فالخيال عنصراً أساسياً في القصة ، إنك لا تري أحداث القصة ، بل القصة تبتعث لك رؤيا بالأحداث .. .. في القصة إذن عالم يعيش فيه ناس لا يوجدون في الواقع بوصفهم كائنات موضوعية عضوية ، فأنت لا تراها ، وتدور فيه أحداث لا تقع أمامك وصفها حركات خارجية مشتبكة بعالم الأشياء الفيزيقية العينية لكننا لا نلقي لذلك بالاً ونستسلم في راحة لتلك التخييلات صدقاً من نوع آخر وواقعاً أكثر واقعية ، وأن فيها حقيقة أخرى ، تلك الأوهام ؛ أمسُّ بنا من أقنعة الحقيقة (5) فلا ضير أن تنبعث الفكرة من تأمل الموجودات أياً ما كانت شريطة أن تتآلف عناصرها في وحدة واحدة تصيب هدفاً مروعاً ويسيطر على أحاسيس ومشاعر المتلقي في حينه ويترك أثراً في نفسه باقياً ، ولقد طوفت قصة (روبابيكيا) – والتي أعتبرها علامة داخل المجموعة اتساقاً وتكاملاً – في فلك القصة القصيرة ذات البعد النفسي والإنساني الخاص بدءً وانتهاءً بشخصية عم محمد الذي يجسد به الكاتب فلسفة الرحلة الإنسانية من القوة إلي الضعف ومن السيطرة على الأشياء إلي مجرد النظرة المهزومة لهذه الأشياء إنها نظرة جديدة كـ(نظرة) طفلة يوسف إدريس للوراء ، تلك النظرة الهزيلة المغلوبة المشبعة بالرغبة المصطرعة مع الحياة ، وبعد أن كان عم محمد محط كل الأنظار يصبح هو نفسه نظرة مستسلمة لإرادة لا يملك دونها غير أن يصطنع
ابتسامة مشفق عليها في مواجهة أم عصمت التي لم توقد ناراً منذ أمد بعيد .. ولم يدفع ولدها معونة الشتاء في
تضافر ساخرٍ وتهكم بالغ الألم يكون البطل مطالباً بحتمية تحريك الزمن للوراء لتتحقق رغبة الزوجة والابن ، ولأن ذلك مستحيلاً لابد أن يروض الزمن القادم بأكذوبة المواراة والهدهدة بأنه فعلاً لا يزال قادراً على البقاء
كما كان في الماضي وأنه لم يتقادم مثل كوبري أبو الريش ، والأتوبيس القديم ، والبنطلون القصير والمقعد الذي غرق فيه والبلوفر المثقوب والابتسامة الباهتة ، وكوب الشاي الفارغ إلا من رشفتين ، وحاجيات البيت والتخاذل وأم عصمت .. [ فلتمش على مهلك .. لا .. يجب أن ترحل في ذاكرتك للوراء ، لا تنفخ الهواء وتضيق صدرك هكذا ] .. وفي لحظة الصمت هذه تنعدم القدرة على المواصلة وسد الاحتياجات في هذه السن .. تحمل الزوجة وابور الطهي لتقايض بائع الأشياء القديمة..

وكأن الكاتب الذي حرك هذه الشخوص ببراعة وإحكام يريد أن يصل بنا صراحة وعن عمد إلي صوت المنادي البائع [ كل حاجة قديمة للبيع ] ليرتد صداها [ ديمة للبيع ] في دخيلة القارئ نفسه : إنه لا يوجد من هو فوق سطوة الزمن ولا فرار من التقادم والانحناء مهما تعاظمت القوة وازدان العود تصالباً وخفة . فنري هنا كيف حققت القصة مبدأ (الوحدة) وهو أساس جوهري من أسس بناء القصة القصيرة بناء فنياً ويشتمل وحدة الدافع ، وحدة الهدف ، وحدة الحدث ، ثم وحدة الانطباع ، وقد يصلح ذلك كقاعدة لا يشذ عنها ، أن القصة القصيرة يجب أن تقوم على فكرة واحدة تعالج حتى نهايتها المنطقية بهدف واحد وطريقة واحدة حيث يجب أن تكون الفكرة الأساسية واضحة تماماً ، وينبغي أن تثير الاهتمام بمفردها دون النظر أو اعتبار لأي تعقيد آخر ، والفكرة هنا لا تؤخذ في ذاتها على أنا منبع رئيسي للقصة القصيرة فإنها يجب أن تأتي من داخل الشخصية أو من صفاتها المميزة ، ويجب أن ترتفع مع الحادثة ، كما يجب أن تكتشف من الشعور الذي يود الكاتب أن يحمله لنا عن طريق القصة القصيرة (6) 0

فنجد في التصنيف الأول قصه (وهم الصحراء) تتواتر وسط طقس من الانفصال عن الذات والتداعي لحلقات إيهامية يداخلها تيار الوعي التي تتجسد في كادرات أو كولاجات تقتحم ذاكرة البطل في لحظات حتمية ، ذلك المسافر ربما بلا هدف غير ما أعلنته القصة صراحةً وهي الرغبة في خلق طقس مهيب ؛ فيما هو بعيد عن أعين الناس وانفساح عالم أسطوري باستجداء ذلك العملاق ، وما تخلف عن النقاط الصغيرة من أناس غير عاديين وذلك من خلال الكتاب القديم الذي اصطحبه في رحتله غير الهادفة إلي الصحراء ، والواضح أن القصة لا تقف على مجرد التسليم بمحتواها الإيهامي وما ورد فيها من قوي غير مألوفة وغير واقعية وإلا لتجاوزت خصائص التجاوب مع أحد أهم العناصر وهو عنصر التجاوب الموضوعي مع الفكرة واستجلاء واقعها بصدق ، وهو ما يدعونا لتتبع بعض الدلالات الهامة للقصة والتي أري أنها تكمن في عنصري (الفعل) و (الحركة) وكلاهما بطلاً في القصة – إذا ما استبعدنا مؤقتاً تيار الشعور والتأويل – حيث يوازي الكاتب بين عالمين مدهشين هما عالم الاستقراء الظاهري الواضح في تيار الوعي – سابق الذكر- 0 وهنا يمكن أن تمثل كادراته قسطاً من الواقعية العادية بالإشارة إلي [ صورته المعلقة على الشباك] ، والتي تتبدد وراء دخان الجوزة ، وما إلي ذلك من تأكيد على بيئة الحي الشعبي و [ بيوتاته ، وأمه التي نسي وداعها ، والعربة التي استقلها ، والسائق ، وشريط الموسيقي ، والجار الذي تفل ، والريح ، والرمل ، وأوتاد خيمته التي أوتدها في عراء الرمل .. إلخ ] ، أما العالم الآخر فهو العالم الاستنباطي (الميتافيزيقي) الكامن في الفناء الذهني للكاتب ، والإيغال فيما وراء الواقع من قوي عديدة تسيطر ، ولديها مقدرات خاصة بالإشارة إلي ذلك العملاق ، وتلك المخلوقات الكثيرة التي أكد الكاتب جهامتها وامتناعها عن التجاوب مع هذا البطل خاصة بعد أن اختفي الكتاب القديم؛ وهو القوة الوحيدة القادرة على السيطرة على هذه المخلوقات .. إن الكاتب قد حاول الاقتراب من منطقة الحدث بالفعل غير أنه فقد قدرته على التحكم في طيات ما أراد أن يؤكده بالحركة ؛ فدعي للأشياء أن تتحرك من تلقائها ، وأن تتخلق في تيارات غير مواتية ، وهنا يتولد نوع من التفاعل الحر فيما بين العالمين نستخلص من هذا التفاعل : أن الإنسان من شأنه أن يصنع معطيات موته بيده عندما تضيع منه القدرة على التحكم أو التجاوب مع عناصر الحياة ، وهذه القدرة أو هذا التجاوب يتمثل في المنهج الكامن في طيات ذلك الكتاب القديم .

أما في قصة (اسم جديد للألم) فالأمر يختلف تماماً حيث يسيطر المنولوج النفسي على هيكلية البناء القصصي فلا نجد قصة بالمعني السائد وإنما نتلكأ عبر مساحات قصصية مفتوحة الطرفين يلعب فيها عنصر الرصد دوراً أساسياً بجانب التفعيل الجسدي أو إطلاقه إلي جانب تواتر الحواس نفسها فى محاولة تفسير هذه المدينة الخانقة التي جعلها الكاتب كظاهرة يجدر تفسير تدللها وعصيانها ، أو فلنقل إنها الحياة بشكل أعم .. فمن خلال أربعة إضاءات نفسية – كما راق للكاتب أن يعالجها – ؛ يتشظي الجسد وينتثر ، ثم يعود ليتوحد ويلتئم في مواجهة لحظة الاكتمال لهذه المدينة /الحبيبة/الحياة ؛ كمعادل لحقيقة وجوده واكتماله في لحظة اكتمالها وتحققها .. تلك الحاضرة علي البعد ولا تقترب ولا تختفي ، تلك الكائنة اللا وجود لها مطلقاً ، والتي تنتثر إزاءها مفردات جسده الذي يدب فيه الرغبة لاستعادة الحلم من خلالها .

إن الأمر هنا أشبه ما يكون بتأويل نص شعري من حيث الرؤية الضوئية وليس الشكل كمحتوي ، وفي مثل هذا النوع من القص يقوم المنولوج بخاصية التداعي والتوليد حيث لا وجود لأي فعل حركي درامي ؛ غير الصراع الذاتي المنبت من ذاتية الكاتب تجاه مرماه الأمثل أياً ما كان هذا المرمي أو الهدف ، الأمر لا يعنينا هنا وذلك بخلاف ما انبنت عليه قصة (روبابيكيا) مثلا فإننا نجد الحركة إلي جانب تيار الشعور يولدان نوعاً من الصيرورة المكانية كثالوث البناء القصصي الذي يولد بالتفاعل بين العناصر كلها ذلك الوقع أو الأثر الذي أكدنا عليه سابقاً ، إن التحليل التأويلى يفترض أولاً أن ما في النص قد انفصل عن مؤلفه ، بمعني أن قصده أصبح بعيداً حين أنجز نصه وأطلقه حراً للقراءة ، وإذا كان ثمة قصد في عمليه التأليف فهو لا يكمن في نيات المؤلف : بل في تلك العلاقات المتشابكة بين ظاهر النص وباطنه ، بين الملفوظ والمكبوت ، المقول والمسكوت عنه (7(

وفي قصة (مخلوقات الطين) فلا نزال بين السطور الأولي للقصة حتى نستشعر بالارتداد والنكوص حيث التكوين الأول لعلاقة الطبيعة الثنائية بين آدم وحواء ، وبضمير الأنا يستهل الكاتب قصته مؤكداً رغبته العارمة لأن يعيد تشكيل ملامح أنثاه منذ بدء الكون وكأنه يريد أن يرسم من خلال هذه الأنثى البدائية دليله نحو فك رموز تلك المرأة القاهرة لقوته والمستلبة لكل مقدرات حياته ، إنه يرغب في تكوين جديد للعالم من خلالها ؛ هذا المفهوم الذي دعي الكاتب لتقسيم القصة إلي ثلاثةِ أجزاء مسبوقة بمدخل هو أشبه بالبرولوج المسرحي يصف فيه بلغة التداعي كيف يصل الإنسان لحد الفرقة والدهشة والتوحد في ذاته إزاء وجود يستنفر وجوده فيصير شيئاً نكراً وتتوقف الأرض عن الدوران .

ثم يخوض في القطع الأول صوت غناء يعيد بنوعٍ من التناص للموروث الديني ليقارب بين تكوين المخلوقات
المحبة له وبين ما تخلف بداخله من توجس وخوف وحزن وفقد في صحراءه المديدة .. ربما تكون الرغبة في الحصول على مؤانسة الأخيار .. الوصول إلي يقظة الإدراك لكل بداية تسير وفق منظومته الخاصة وتكويناته الصلصالية الجديدة التي يضمن ولائها في هيامه ونومه .

أما في القطع الثاني ما قالته الأسلاف فهو يمثل بانوراما سريعة وقصيرة للعبث الذي يعيشه الإنسان مما
يدفعه إلي السير نحو الهلاك لأنه لم يستمع إلي مكنوناته التي يظنها الكاتب لا تخطئ بفطرتها والتي تعود لغة تيار
الشعور لتبرز حالة الوهن والضعف والانسياق التي تسيطر على الإنسان في شتى مقاصده ومراميه [ لم تكن ظامئاً للماء وشربت ، لم تكن بحاجة للوجد وعشقت حتى وصلت فتوصلت للنهايات .. الفناء من حولك ] ثم يعود الكاتب بضمير الأنا الفاعل متداركاً فشل خطاه ومحاولاته نحو الانتصار /العودة/التزاوج/التوحد مع قمر الزمان/المؤانسة ، تلك هي الحالة القصصية التي خلت من حبكة القص وعناصره وشابهت عالم القصيدة النثرية وأجوائها الأسطورية والرمزية والميتافيزيقية ، والنفسية ، وقد انتقلت عدوي تلك الحالة في عدد من الحالات القصصية (اسم جديد للألم) ( أحد ما )(الممر)(صورة لا تشبه الأصل)، ففي (الممر) يقف الكاتب في منطقة عدمية أو برزخية شديدة الظلمة ، تنعدم فيها مفردات ومعاني الحياة كالفرح والحزن ينشد فيها الخلاص من
تلك الكتل اللحمية التي يزدحم بها ذلك الممر غير المحاط بإشارة أو علامة تدل عليه صراحة ؛ ربما أراد الكاتب
مفهوماً جديداً للأزمة وهنا تسير المفاهيم وفق الحياة بمناحيها المتعددة ، أو أنه ارتفع لشمولية المعني لما
بعد الحياة فكان عبور الممر هو الوصول الحتمي للخلود [ أجساد تتلاصق .. مشكلة كتلة لحمية رهيبة لكائن هلامي تضربه سياط ملائكة غلاظ في يوم حشر ] .. وقصة (صورة لا تشبه الأصل) تعرج على نفس نمطية افتقاد الحبيبة والدف بمعالجة تيار الشعور أو المنولوج الداخلي حيث تتضح سلبيات عديدة أهمها عدم وجود حدث مؤثر وجديد إذا ما قورنت بقصة (روبابيكا) أو (العلب) أو (آية الصحراء) أو (عزاف النار) أو (العمامة) غير أن (صورة لا تشبه الأصل) تعد تجربة أكثر ذهنية فالكاتب يصنع خداعاً مزدوجاً بوهم الجلوس إلي حبيبته في الكازينو تلك الحبيبة التي تشبه المثل الذي يستكين في ذاكرة الكاتب ولكنه يأخذ تدريجياً في الاختلاف حين تعود الفتاة /الصورة إلي نقطة متواضعة في محيط الكاتب بينما تظل الفتاة/الأصل/المثل باقٍ في مخيلته ودخيلته [سيدة بنات حواء] 0

وكأن الكاتب صراحة يؤكد على أن ليس كل ما يسعي إليه الإنسان يدركه ، وتصبح الحقيقة والواقع على غير شاكلة الحلم أو المثل ، وتنتهي القصة في النهاية على أن الصورة والأصل معاً لا وجود لهما إلا في ذهن الكاتب الذي لا يزال فرداً يضع الطعام لنفسه ويأكل بمفرده . ويبدو أن الملمح الجوهري الذي لا تخطئه العين في هذه العلاقات هو قيامها على أساس نوع من المفارقة التي تؤدي في لحظة معينة إلي حالة من التألق المفاجئ لدي المتلقي ، يدرك عبرها بلون من الأسي الشفيف والدعابة اللطيفة مكمن الدلالة الفنية للقصة ، وربما يتم ذلك بتراكم صنوف عديدة من المفارقات التي تمضي في نفس الاتجاه (8) ..(قول وليام فان اكنور : ننتظر من كاتب القصة أن يلم بحبكة وفن القصة كي يعيننا علي كشف ناحية من نواحي الحياة نجهلها من قبل أو على الأقل لا نعرفها بنفس الصورة التي يبرزها الكاتب . ، إن كل شخصية حية إنما تمثل مبدأ وقوة وحالة وروحاً ، فنجد شخصية اللاعب بالنار أو .. (عزاف النار) وهي قصة المجموعة ؛ نجدها تتميز بحضورها الدائم في المكان وطغيانها على الحدث الواحد ، حيث تسير في إطار تكتيكي بين الواقعة والأثر ؛ ذلك الدرب الذي سارت عليه غالبية المجموعة إن جاز لي أن أستثني فقط قصتين (وهم الصحراء) في التصنيف الأول للمجموعة و (العمامة) في تذييل القائمة وهاتان القصتان سوف يتم إخضاعهما قدر الإمكان للتأويل – منهج هذه الدراسة - ، ولكني أري أنهما يبعدان عن طابع وصبغة المجموعة التي اعتمدت على التوليدية في معظمها أكثر من اللغة السردية والوصف السائد وجعل المكان نمطياً والاحتفاء بالعناصر الكلاسيكية للقصة من موضوع له بداية ووسط ونهاية وتشويق وخلافه .. أما في قصة (عزاف النار) فإن الكاتب ينتحي منحي يشبه الانشطار الحدثي أو الحركي ، والإيهام بأن هناك عالم خاص يقارب الطقوس أو الشعائر من خلال الاستهلال الموحي باستدعاء رمز تراثي ديني وهو (يوسف الصديق) الذي راودته امرأة العزيز عن نفسه فيقول في الجملة الاستهلالية [ إذ يتفرد بغرفته .. تنفرد به ] رغم ما وضح بشكل قوي من شُقَّةٍ وتباعد عن هذا المفهوم أو ذلك التناص حيث تجسدت أبعاد وعوالم شخصية ذلك العزاف مقرونة بالخداع الحركي – وهو جزء من دلالة المعني – فنلاحظ دور التداعيات التي حركت الشخصية من ذاتيتها وأسر جوانيتها إلي آفاق أرحب بتعدد الأمكنة [بحر مويس ، كازينو النهر ، الشوارع على امتدادها ، الأزقة ، الميادين] رغم أن ذلك التجوال البصري ليس إلا تجوالا ذهنياً إيهامياً ؛ وأن العزاف بطبيعة الحال لم يغادر غرفته جالساً وسط حلقة من الأصدقاء الوهميين ، ومن هنا كان لابد من تدارك أن النار التي يعزفها ذلك الرجل هي الحقيقة الوحيدة داخل هذه الحلقة أو الحضرة بالمفهوم (الزاري) وأن الحلم والوهم معاً ينتصبان في كل شيء يقع تحت بصر هذا العازف أو فلنقل : العابث .. وشرط تحقق وجود الإنسان داخل هذه الحلقة – التي تنفرج وتنقبض وتزيد وتنقص – مرهون بالخطر والصعب والتضحية أحياناً ..
إن أنسنة العلاقة بهذه الكيفية من شأنه أن يقترب بهذه الشخصية (الهاملتية) نوعاً إلي دائرة الصراع الجواني
بأبعاده النفسية الحادة وبعيداً عن الموقف الدراماتيكي والتشنجات تؤكد القصة أن الإنسان في كل نزعاته الإنسانية
نحو الوصول إلي الانتماء ، الحب ، التواجد ، السيطرة ، التفوق ، التوافق النفسي والحسي معاً ، لابد أن يكون
عزافاً ماهراً للنار أولاً وقد لا يصل في النهاية ، إن فلسفة هذه القصة تشابه إرادة (شيخ) همنغواي أو إرادة
(سيزيف) في تكرار المحاولة وهما طابعا الحياة التي يعنيها مفهوم الإرادة والاستمرار ودون الانجراف مع
عبارات القصة المدموجة الناقصة أحياناً بفعل نفسي سيطر على الكاتب ، ودون الانخداع البصري بتعدد المكان أو الإيحاءات الحوارية ، وهو منحي أشبه ما يكون بأدب الصمت والفراغ ..

يقول بعض النقاد المحدثين إن نموذج القصة القصيرة الذي يمكن له أن ينطبق بشكل ما على جميع الحالات يتمثل في ثلاث نقاط : حالة توازن في العلاقات القائمة بين الأطراف لا يلبث أن يعتريها خلل ما يعصف بهذا التوازن ، ثم تأخذ الحياة دورتها ويعود توازن من نوع جديد مخالف لما كان عليه الأمر في الحالة الأولي (9)0

نجد هذه العلاقات كذلك في قصة (العلب) ولكننا نلحظ هنا أن الكاتب لم يصنع ذلك التوازن الداعي لاستقامة الحياة ، وقد دعي لتيار الشعور واستسلم لبعض المشاهدات التفصيلية لليوم الواحد في ظل الضيق والبيروقراطية والتلوث والقاذورات والازدحام والخطر ، والضعف في مواجهة ذلك الخطر من خلال تلك الجولة التفصيلية المقرونة بالتبعة والمشبعة بشهوة الخلاص من تلك العلب لكنه بدلاً من أن يبشر بالإصلاح من خلال القصة نجده يستسلم لهذه السطوة من المشاهدات فيشعر بضيق العالم حواليه في مقابل شسوع أحلامه وتعددية رغباته في حيزٍ أشبه بالعلب 0

وكما يؤكد د. صلاح فضل أنه من الصعب على المتلقي أن يستجلي هذا النموذج بيسر في بعض الحالات لمرهقة الدقيقة نتيجة للحرية القصوي التي يتمتع بها المبدع في اختيار وسائل العرض وزوايا التصوير وضبط إيقاع الأحداث وتغطيته لمساحاتها الزمنية ، لكن تظل أمامنا فرصة للكشف عن البنية القصصية عن طريق تحليل العلاقة بين مستويين ، الأول مباشر : وهو طريقة تتابع القول القصصي في سطور مكتوبة أمامنا وتراوحه بين وصف المكان والشخصيات ، وسرد الحكايات والأحداث ، وإقامة الحوار التمثيلي بين الأطراف ، والمستوي الثاني غير مباشر : وهو العالم الذي تتصوره نتيجة لهذا القول وطريقة انتظامه في مراتب تتكيف طبقاً لعلاقته بالمستوي الأول وما يفضي به من بيانات جمالية وعناصر قيمية (10( و قصة (درجات متعاقبة) من القصص ذات الطابع اللغوي /الحركي الهادئ ، فالعنوان يوحي بهذا الانتظام في العلاقات الداخلية للحدث الذي يتصاعد من خلال شخصيتي بائع الكتب ، والشاب الذي يشتري مكتبة من الكتب يمتلكها رجل آخر يسكن أحد الطوابق العالية ، فيتوسط بائع الكتب وتتم البيعة وتنتقل المكتبة كلها عدا (رواية) اشترط البائع أن يحتفظ بها ، ومع انتقال الكتب من الطابق العالي عبر هذه الدرجات المتعاقبة تتبدل الكتب النادرة الأصيلة إلي المجلات والإصدارات المبتذلة والكتب التجارية ، وكأن الكاتب يجسد التردي الذي يتعرض له الكتاب كمعادل للعقل وما يحيط به من محاولات لتدميره وفناءه ، ..

وفي قصة ( العمامة) بتقليدية السرد وعفوية المعالجة فإنها قد ارتكزت على المشهد الجنائزي عبر الطقس الريفي
المعهود – والذي أجاده الكاتب لحد بعيد – فكانت الجنازة حارة جداً ؛ والميت هو الحلم ، هو الأمل ، هو العزيمة، هو الغد .. أو لنقل هو (العمامة)/المعادل ، حيث يروي الكاتب بالشكل السردي الطبيعي كيف مات الحلم الذي يشبه ذلك الصبي الصغير الذي يلعب هو وأطفال القرية ثم تجذبهم حركة الجنازة وصوت الطبول نحو تتبع الحشد الذي تتقدمه السيدة /الأم حاملة بين يديها الجثة/ العمامة /الحلم ، وتنعي ولدها في تردد أصوات الأخريات في الخلف [ ابكي عليه وعددي ، دا كان مقامي ومشهدي ] ، وبينما يتم الحفر لدفن الجثة يقفز الصبي والأولاد ويختطفون العمامة ويجرون بها بعيداً عبر حقول البرسيم ، وفي هذه اللحظة بالذات تصمت الطبول الجنائزية ، وتكفكف الأم دمعها بكم جلبابها وهي تنظر الأولاد الفرحين بالعمامة .

ولاشك أن هذا الطابع يجعلنا نرتد لعالم القص عند يوسف إدريس ذلك العالم المشبع والغني بالتقنيات الدلالية
والتأويلية والقيمية الرائعة والذي غاب في هذا الجيل لحساب تقنيات أخري تصاعدت بوازع التجديد وابتكار وسائل جديدة وتقنيات أخري للقص ، وربما أراد الكاتب في هذه القصة وهي آخر قصة في مجموعته (عزاف النار) أن يجعلها المعادل الموضوعي المشترك الأوحد لكل مشاهداته القصصية السابقة ، على الرغم من التحفظ على تقليدية القص بها مما ينحيها في ركن خاص بعيداً عن منهجيتنا التي أشرت إليها سابقاً على أنها ستعني بالمقام الأول على التوالد والتأويل وإنتاج الدلالات والرؤي القصصية الموازية من خلال خيط المنولوج الذي استساغه العربي عبد الوهاب فأبحر به داخل تيار شعوره فكانت رؤاه القصصية رؤي عامة وشمولية تماماً كتفعيل النص الشعري باختلاف المعالجة ، ومحاولة أنسنة العلاقات مما استجلب معه ضرورة النظر إلي
قصص المجموعة من منظار نفسي دقيق متغاضياً عن تطابق عناصر القصة الأساسية لهذه النصوص باعتبارها تحمل هماً نفسياً وإنسانياً مشترك مما يمهد الدخول إلي المجموعة كسلسلة منفصلة متصلة لمشاهد عديدة تمر مسرعة صامتة على كادر يبرز - من خلال التتابع النفسي للأحداث المتعاقبة - عدة حالات تسيطر على شخص واحد لكنها تحتفظ لنفسها بالتجدد المستمر والقابلية للتأويل تاركة في نفس القارئ أثراً باقياً 0


v v v


الـهــــوامـش:

(1) عزاف النار / قصص ، العربي عبد الوهاب .. الهيئة العامة لقصور الثقافة /إبداعات ، العدد 75 ، منتصف
ديسمبر 1998.
(2) البئر والعسل / كتابات معاصرة في نصوص تراثية ، حاتم الصكر /الهيئة العامة لقصور الثقافة ، كتابات نقدية (69( ص 163 .
(3) السابق .
(4) موت الأحلام في زهرة البستان / د. عبير سلامة ، مجلة القصة ، عدد 97 ، يوليه . أغسطس . سبتمبر 1999 .
(5) ما وراء الواقع / ادوار الخراط . هيئة قصور الثقافة، كتابات نقدية ، التخاييل في فن القصة ص 65 .
(6) الحلقة المفقودة في القصة القصيرة / د. سيد حامد النساج ، الهيئة العامة لقصور الثقافة ، كتابات نقدية(1) ، ص 16 ، أغسطس 1990 .
(7) البئر والعسل / مرجع سابق ، ص 8 .
(8) إنتاج الدلالة الأدبية / قراءات في الشعر والقصة والمسرح / د. صلاح فضل ، هيئة قصور الثقافة ، كتابات
نقدية ص 142 .
(9) السابق ص 141 .
(10) السابق .





نقلا عن موقع الذاكرة الثقافية