الخميس، فبراير 02، 2023

قراءة جديدة في أوراق قديمة


  

قراءة جديدة في أوراق قديمة 


تمثل الكتابة لليافعين تحدٍ صعب وشائك لمن  يقرر أن يخوض غماره وذلك بسبب عدم وجود نمط أو كتالوج محدد يمكن القياس عليه لتلك المرحلة الحرجة التي تقع بين الطفولة والشباب ومقدار ما يحدث خلالها من تغيرات فسيولوجية ونفسية وتفاوت في القدرات والمعارف بين أبناء الجيل الواحد ،فلابد للكاتب أن يكون علي دراية كاملة بطبيعة أفكار واهتمامات هذه الفئة والأسئلة  التي تنازع أنفسهم وتشغل محور اهتمامهم والمفاهيم التي يعتنقونها حول الآخرين والعالم من حولهم ورؤيتهم لأنفسهم و لحاضرهم ومستقبلهم ويجب أن يصاغ كل ذلك في إطار لا يستهين بقدراتهم ولا وعيهم ولا مشاعرهم كما أن الصدق هو باب الوصول المضمون إليهم ،كذلك هناك خيط رفيع بين الكتابة لليافعين، أو الكتابة عنهم ،أو (الكتابة لهم وعنهم في آن واحد) وهو ما يجعل الأمور غير واضحة حتي لدي العاملين في حقل الكتابة والنشر، فيجد الكاتب صعوبة في إقناع الناشر بفكرته ومشروعه ،مالم يكن لدي الناشر هيئة استشارية واعية وذات خبرة كبيرة بهذه التفاصيل

 مجموعةقصص «أوراق قديمة» لعفاف طبالة تمثل أحد هذه التحديات مجموعة مكونة من ثلاث حكايات بعناوين «جيوب» و«تحت الرجلين» و«حجرةالخزين» كتبتها عفاف طبالة بصيغة المتكلم علي لسان فتاة ناضجة تحكي مواقف واجهتها في سنها المبكرة ولعل ذلك كان السبب في أن يتوهم كل من يقرأها أنها سيرة ذاتية أو جزء من مذكرات الكاتبة نفسها،   هذا بالإضافة إلي درجة الصدق والإلمام بمشاعر ورغبات بطلة القصص، والاندماج التام معها، والتعبير عن مشاعرها بأدق العبارات وأقصرها 

لكن الحقيقة غير ذلك تماماً  !! 

أو دعنا نقل غير ذلك بدرجة كبيرة 

نعم هناك تشابه

 فالكاتبة سيدة وكانت طفلة ومن أسرة فوق المتوسطة ولها نفس العدد من الإخوة والأخوات ولكن الحكايات والأفكار والحبكة هي من بنات أفكارها

 فالكاتب مثل النحلة يتذوق جميع الأزهار ويمتص رحيقها ثم يهضمه ويخرجه في النهاية في صورة حكاية يتوهم القاريء من فرط صدقها أنها حقيقية ويبدو أن عفاف فطنت إلي ذلك اللبس فقالت علي لسان الجد في القصة الأخيرة« حجرة الخزين» العبارات التالية 

«قد لا تكون بهذا الجمال في الحقيقة فالفنان لا يقدم الواقع كما هو»

«ما يرسمه الفنان ليس ما عليه الأشياء في الحقيقة بل كما يراه هو أو كما يحب أن تكون» 

« الفنان لا يكذب هو يستوحي من الواقع ليصنع حقيقة خاصة به» 

«الفنان يستبعد أشياء من الواقع ويختلق أخري ليعطي للوحة المعني الذي يريد»


في الحكاية الأولي «جيوب»  بطلتنا طفلة لها شخصية مختلفة لكن لا أحد يلتفت إلي رغباتها البسيطة ولا يعترف بشخصيتها المستقلة ولا يحترم ذوقها الرافض للمألوف إنها فتاة رقيقة وذكية ومختلفة وهي كذلك مستقيمة الخلق ترفض الغش ولا تتنازل عن أحلامها ولو باعدت بينها وبين تحقيقها الظروف ولديها القدرة علي شرح وجهة نظرها والتأثير في الآخرين ولو كان ذلك التأثير لا يظهر إلا بعد سنوات طويلة حيث تتأكد أن الأحلام أبدا لا تموت بل تبقي حاضرة في نقطة بعيدة من الوعي حتي تأتيها الفرصة لتتحقق


في القصة الثانية «تحت الرجلين» نتابع يوميات الفتاة التي تبدو لأول وهلة هي نفسها بطلة الحكاية الأولي فهي كذلك مستقيمة صادقة ولكنها مسالمة وتكره الدخول في صراعات من أجل أشياء تراها تافهة، ولكن ما يزعجها عدم تفهم الآخرين هذا ، واستسهالهم الاستيلاء علي حقوقها واتهامها بالجبن بسبب ذلك التسامح، فهم يستولون علي حقوقها اعتمادا علي أنها عاقلة، لكنها كانت تشعر بالظلم رغم ذلك

 مع أنها في الحقيقة تؤمن أن دخولها في شجار من أجل بعض المكاسب التافهة يجعلها غير راضية عن نفسها

 ونتعرف من خلالها أن التنازل ربما يحتاج أحيانا إلي شجاعة أكثر مما يحتاجه الشجار وفي النهاية وبعد سنوات كثيرة تكتشف أن مشاعر أمها نحوها كانت حقيقية ولم تكن أبدا تطييبا لخاطرها حتي تمرر حلولها المنحازة نحو إخوتها ولكنها كانت تعنيها فعلا 

" لم تظلميني طوال هذه السنين إذن بل أنا التي كنت أظلمك»

 

القصة الثالثة «حجرة الخزين» نستمر مع بطلتنا المستقيمة التي تكره الكذب وتتجنب إيذاء الآخرين بكل وسيلة ولكنها تعاني أيضا بسبب عدم التفاعل معها من جانب إخوتها أو أقاربها الأكبر منها ،فهي لا تجد معهم ما يناسب ميولها نظرا لفرق السن بينهم واختلاف الاهتمامات ، فتتجه إلي شغل وقتها بالتعرف علي بيت الجد الغامض وكسر التابوه المرعب الذي رسمته جدتها المتسلطة حول بعض الأماكن في البيت القديم لمنعهم من دخولها

 وتجد في حجرة الخزين مفاجأة تفتح لها آفاقا متعددة من المشاعر والأفكار والحكايات الملهمة وهذه القصة بالذات أشعر أنها كانت تستحق من الكاتبة المزيد من العمل

 فهي مفعمة بالأفكار والمشاعر والأحداث  وربما المغامرات المثيرة التي تناسب رواية قصيرة وقد برزت فيها عفاف المخرجة في كتابة مشهدية كان بطلها الضوء والظل والصورة  لتقدم محتوي بصري موحٍ وكأننا أمام المخرجة  الفنانة تكتب ملاحظاتها لمدير التصوير لينفذها في صور رمزية معبرة ذات حس مرأي باهر «مدرسة الرسم بالضوء »

 مثلا🎬

  " كانت علي جانبي الممر الأيمن والأيسر حجرات موصدة الأبواب وفي نهايته من الطرفين بابان كبيران ينفذ من عقبيهما بصيص لضوء النهار في الخارج وفي مواجهة السلم في العمق غرفة غارقة في الظلام بدت لي في حلكته كفم غول مفتوح»

«لاحظت خيط نور مرسوما تحت عقب باب الحجرة الاخيرة» 

«خرج من الحجرة رجلان تاهت تفاصيل ملامح وجهيهما في ظلمة الممر »

«لكن الضوء النافذ من الباب كشف تفاصيل المكان»

«كان الضوء ينعكس علي جانب واحد من وجهه ويرمي بظل جسمه الطويل علي أرض الممر »

«رمي ضوء الشمس بظل كل ما اعترضه علي الارض» 

«التفتُ إليه فرأيت ضوء شمس  العصر قد فرش نوره علي كامل وجهه لحظتها بدا لي جدي بجلبابه الأبيض كملاك طيب»

«علي ضوء أباجورة تتوسط السريرين تركت مضاءة بأمر جدتي» 

«تخيلت نفسي فلاحة تغني وتعمل في الحقل ألهمت فنانا ليرسمها »

«كان الضوء النافذ من الباب يغطي وجهه ويرمي بكامل ظله عليّ »


-أنت دائما تشيد بأعمال عفاف طبالة؟!😎

- يبدو أن حبك لها يؤثر علي رؤيتك فتكون منحازاً دائما🙏

- ولم لا ؟

يا صديقي عفاف طبالة تمثل تحدياً مرعبا لكل من يكتب لليافعين، أعمالها حصدت كل الجوائز وكتبها ومن ضمنها هذا الكتاب مقررة علي طلاب المدارس ومرشحة من قبل الهيئات التربوية العالمية 🔬


- إذن دعني أبحث عن أشياء ربما كانت سلبية أو غير منطقية  غابت عنك

في حكايتها الأخيرة التي أشدت بها «حجرة الخزين» 

- خذ مثلاً:

 علمنا أن الجد قد تقاعد لكنه يقدم الإستشارات المجانية للفقراء 

وعندما تأخر هو والبطلة في الخارج نجد الجدة تفترض مباشرة أنه كان في المحكمة من أين جاءها هذا اليقين «ألم يتقاعد؟ » 

ويجيبها  مجاريا لها أن المحاكم تغلق لكن المكاتب تظل مفتوحة! مع أن مكتبه في نفس البيت؟ 


كذلك غياب البطلة الفتاة الصغيرة عن الجد والجدة غير المبرر والمدي الزمني الطويل دون تواصل مباشر لأكثر من عشر سنوات علي هذه الزيارة ومع ذلك مازال الجد محتفظاً بتفاصيلها بل كوّن رأياً مسبقاً نحو الطفلة التي كبرت وافترض أنها لابد أن تكون نفس الشخص الذي كانته منذ عشر سنوات

 ثم تشعر الكاتبة أنها ربما تسرعت قليلاً فتقدم مبررا علي لسان الجد ،« أنه كانت تصلني أخبارك»

هذه المنطقة فيها ضعف، وكانت تحتاج إلي المزيد من المواقف تتيح التواصل بين الجد والحفيدة بأي وسيلة  

حتي يستقر لديه ذلك اليقين والاقتناع الذي تكوّن خلال هذه السنين وما تبعه من اتخاذه لقرارات هامة والبوح لها بأسرار خاصة 

«مرت سنوات تراجعت

فيها وقائع هذه الزيارة لبيت جدي الي خلفية ذاكرتي حتي كدت أنساها» 

«طلب جدي من أمي أن تبلغني أنه سينتظرني فيها لنستكمل حديثا بدأناه منذ سنوات ولم ينته بعد فالظروف لم تسمح بزيارات صيف أخري»

- أرجو أن يكون نقدي السلبي قد أقنعك بموضوعيتي؟

- علي كل حال أنا أري أن هذه المجموعة الصغيرة من أقوي وأجمل ما قرأت لعفاف طبالة

كما أن رسوم هنادي سليط التي جاءت بطريقة الظلال كأنها  لوحات لخيال الظل وبلا ملامح كانت مناسبة جداً ومتوافقة مع رؤية الكاتبة التي لم تذكر اسماً لأي من شخوص القصص ليجد كل منا فيها جزءاً من نفسه، 

كما أن بالقصص الكثير من الخلاصات المعبرة التي يمكن اعتبارها حِكَماً و مقولات نادرة 

وكان أكثر ما مسني بشكل شخصي قولها «السلامة هي أن نستمتع بالرحلة وليس فقط أن نظل أحياء »🙏


- طبعت الطبعة الأولي أغسطس 2007 عن دار نهضةمصر


- أوراق قديمة مجموعة قصص قصيرة للشباب، اختيرت لتكون واحدةً من كتب مكتبات مدارس المرحلة الإعدادية على مستوى الجمهورية 2008؛ وكانت ضمن قائمة شرف تضمنت عشر كتب على مستوى الوطن العربي لإختيار معرض ال101 كتاب الذي تنظمه مؤسسة أنا ليند الأورو متوسطية.


− أنتجت وزارة الثقافة في الأردن القصة الثالثة من المجموعة "حجرة الخزين" كمسرحية في مهرجان مسرح الطفل في عمان في 2012


شكرا د.عفاف علي هديتك القيمة💕

ليست هناك تعليقات: