السبت، مايو 19، 2007

قراءة فى ديوان حاجات مفقودة كتير للشاعر عزت ابراهيم

قراءة نقدية في ديوان .. حاجات مفقودة كتير للشاعر / عــزت إبراهيم
السخرية القائمة على المفارقة الحزينة · *عبــده الـزراع حاجات مفقودة كتير ]] هـو الديوان الثاني للشاعر ( عـزت إبراهيم ) والذي صدر في سلسلة ( الجوائز ) 0عن الهيئة العامة لقصور الثقافة ، وقد فاز بجائزة أفضل ديوان عامية في مسابقتها المركزية لعام 1999م । صدر له من قبل ديوان " بنحب موت الحياة " في سلسلة ( إبداعات ) عام 1999م عن الهيئة العامة لقصور الثقافة أيضاَ ।بداية من عنوان الديوان [[ حاجات مفقودة كتير ]] والذي يبدو لقارئه منذ الوهلة الأولى أنه عنواناً عادياً ، إلا أن القارئ للديوان بتمعن ورويَّة ، يوقن أن هذا العنوان دال على عالم الشاعر ، وعلى ما يدور بين طيات هذا الديوان । فكلمة (مفقودة ) ليست بمعنى ( الفقد) أي ( الضياع) ولكنها جاءت بمعنى ( الحرمان ) الحرمان من كل شئ ، من ملذات الحياة ونعيمها ، الحرمان من مجرد الأحلام البسيطة التي هي من حق كل من يحيا على وجه هذه الأرض ، وهذا يؤكد الجزء الثاني من ( الإهداء ) الذي صدر به الشاعر ديوانه فيقول فيه : ( إلى أصدقائي : أنتم تحلمون ॥ اسمحوا لي أن أحلم مثلكم ) وهذا خير دليل على أنه محروم من مجرد الحلم ، الذي يمارسه أصدقائه وهو بالطبع – الحلم – من حقهم ولكنه هنا يؤكد على شئ آخر وهو : أن أصدقائه يستكثرون عليه مجرد الحلم على الرغم من أنهم يحلمون [ 1 ] ( عـزت إبراهيم ) شاعر مهموم ، يحمل هموم الكون فوق كتفيه ، يحيا بها ويعايشها لحظة بلحظة ، ينام ويقوم بها ، فهو متوحد مع هذه الهموم ، لا تنفصل عنه ، وهي بالطبع هموم الشاعر المثقف المبصر بكل ما يدور حوله ، على كل الأصعدة العربية والعالمية وما يحي فيه هذا الواقع المرير من انهيارات وتفكك ولامبالاة ، انهيارات على مستوى واقعنا العربي الذي يحيا أدق فترات تاريخه ، وتفكك على مستوى المجتمع والأسرة والفرد ولامبالاة ، لأن أحداً لا يتحرك ، ولا يرغب في أن يغير هذا الواقع الذي يزداد تعقيداً يوماً بعد يوم، بل أن الجميع استعذب عذاباته التي أثقلت كواهله فأصبحنا شيوخاً نتخبط في الظلام، نتعثر فننكفئ ، ثم ننهض فننكفئ ، وهكذا أصبحنا نحيا على هذه الكيفية ، مسلوبين الإرادة ، فاقدين الهوية ।[ 2 ]ينطلق ( عزت إبراهيم ) في هذا الديوان من الهم الفردي إلى الهم الجمعي ويتنوع بين الوطني والإنساني والعاطفي ، ويعبر من خلال لغته الشعرية البسيطة ومفرداته السهلة والمنتقاة بعناية وعفوية عن تجربته الذاتية وبما أنه يحي في هذا المجتمع فلابد وأن تجربته الذاتية تتماس مع السواد الأعظم من هذا الشعب فتنطلق إلى العموم ، فيقول في القصيدة التي تحمل عنوان الديوان " حاجات مفقودة كتير " :( كان دايماً يتسحب ॥ ويغمض عيني ॥ويسأل : مين ॥!!وانا من فرط اللهفة وبدون تفكيرانطق وأقول : ….....فبكل براءة يطأطأ بلسانهأداري كسوفي وخجلي ॥ واقول :طب مين …।…………..؟! ) ص57عندما قرأت هذه القصيدة أعادتني إلى فترة الطفولة الجميلة والصبا ، حينما كنا نمارس هذه اللعبة بمتعة ، ونسعد جداً حينما نتعرف على من يغمض أعيننا بكفيه .. يميل عزت إبراهيم في هذه القصيدة بل وفي معظم قصائد الديوان إلى الحكاية الشعرية أو بمعنى آخر السرد الشعري غير عابئاً بالصورة الجزئية ولكنه يعتمد على رسم صورة كلية من خلال القصيدة أو على المفارقة التي غالباً ما تفاجئنا في نهاية القصيدة . فيكمل قائلاً :( فيسأسأ ويقول :أنا مين ؟فأمد إديَّـا أحسس على إيدهووشه وشَعرهنفس الإحساس اللي انا حسيته معاهنفس التقاطيع اللي فى وشهنفس التسريحة ونفس الدفء اللي ف صوته………..ممكن ؟!معقولة يكون …… ؟يااااه معقول ؟! ) ص58يبدأ في التعرف على من يغمض عيناه حين يلمس يديه ، وتقاطيع وجهه ، وتسريحة شعره ليكوَّن في ذهنه صورته التي يؤكدها دفء صوته الذي أحس به الآن ، فيســأل نفسه ( ممكن .. معقوله يكون ؟‍‍ ) وهنا تظهر دهشة الاكتشاف كالطفل الذي يكتشف مفردات الحياة من حوله فيصبح سعيداً بهذا الاكتشاف ، نفس فرحة الشاعر بهذا الاكتشاف فيقول : ( يااااه .. معقول ) وكأنه أراد أن يؤكد لنفسه صعوبة أن يكون هو من كوَّن صورته في ذهنه ، فيكمل القصيدة قائلاً :( كل الأيام الحلوة هترجع ؟كل الأحزان اللي فى قلبي هتتبخر؟أنا باحلم .. ولا بجد ؟الله !!قلبي بيتنططالرعشة بتتسرسب من صابع رجلي لجلد الراسالدم بيجري فى شعريمعقول ؟؟!! ) ص59 ويبدو من خلال هذا المقطع أن الصورة التي كوَّنها الشاعر، لشخص عزيز عليه جداً ، هو الذي يرجعه إلى الأيام الحلوة ، بل ويخلصه من كافة الأحزان وتصل حالة التخيل لدى الشاعر إلى مرتبة العشق والوله والفرح الشديد وكأنه يلتقي بحبيب له خلسة بعيداً عن أعين الناس فتتملكه رعشة الحب التي تذوب بالدفء حينما تلتقي الأيادي وتتشابك الأصابع الملتهبة ويكمل قائلاً : ( دا انا إيدي آهي .. في إديهوشفايفه .. بتسرح في صوابعي يااااه .. على كل سنين الحزنيااااه ع العمر المسروقمحروق الهم محروقة الدنيا اللي بتعمي العينازاي العمر يفوت .. وما احسش إنك موجودأنا راسي خلاص .. بتلفامسكها كويساحضنها احضنيارفع إيدك عن عيني أنا شوفت خلاصأنا قلبي تأكد إنك موجودبس .. حاجات مفقودة كتيريمكن ..تغفرلي فى قلبك بعض الحزن ) ص60وهنا يخرج الشاعر من حالة الحلم إلى الواقع حينما يتأكد أن أصابعه بين يدي صديقه ويبدأ في لعن كل سنين الحزن ، والعمر الذي انفلت من بين أصابعه في الهم والألم ، دون أن يرى الدنيا على حقيقتها .. كأن هذا الصديق هو المخلص من كل عذابات الكون ، بل وهو الصديق الصدوق الذي سوف يعيده إلى الأيام الجميلة والذكريات السعيدة التي انقرضت وتلاشت في زحمة الحياة ، فيحسه بقلبه ويؤكد من خلال هذه العقيدة على أن الزمن الجميل الذي عاشه مع صديقه هذا أتى متأخراً رغم سعادته بالعودة مرة أخرى وذلك لأن هناك أشياء كثيرة قد تغيرت وتبدلت وفُقدت لغياب الصديق الحقيقي الذي يخفف آلام صديقه ، والذي يركن له حينما تشتد به نوبات الحياة وأزماتها ، فيشعر بالأمن في وجود هذا المخلِّص ويسأل في دهشة هل يغفر له بعض الحزن الذي اعتراه من عوامل الزمن ونوائبه وخيبة الرجاء في الأصدقاء الحقيقيين .يعتمد الشاعر على المفارقة في نهاية هذه القصيدة فرغم فرحته بعودة صديقه (المخلص) إلا أنه تمنى أن يغفر له بعض الحزن ، ذلك لأنه أصبح غير قادر على (الفرح) .وفي قصيدة ( الكُـتَّاب اللي بقى سوبر ماركت ) يعود الشاعر فيها أيضاً إلى فترة الطفولة المبكرة ويتذكر اللعب في (الحارة) التي تغيرت وأصبحت الآن (شارع) ، وأيضاً (الغيط) الذي أصبح موقفاً للعربات ، وشجرة التوت التي كان يقذفها بالحصى هو وابن قريبته ليتساقط توتها اللذيذ ، فيعبئوه في حجورهم ويذهبا به إلى (الدار) ليأكلاه هما وأبناء العيلة ، التي تفرقت لتصبح (ستين حتة) حتى (الكُـتَّاب) الذي حفظ فيه كلام الله تغير هو الآخر وأصبح الآن (سوبر ماركت) بل يتذكر الشيخ الذي حفظ على يديه القرآن ويدعو له بالرحمة ، حتى الدار التي عاش فيها ذكريات الطفولة هدمت وبني مكانها ( مستشفى استثماري ) . المفارقة في هذه القصيدة أيضاً أنها تدهشك لتصطدم بالواقع وبأن كل شئ حقيقي وأصيل قد تغير وتبدل لتصبح حياتنا مجرد حياة رخامية بلا أحاسيس ولا ذكريات ، ولا جذور أيضاً ، أصبحنا غرباء في أوطاننا وكما يقول المثل الشعبي القديم ( من فات قديمه تاه ) أي أن من بعد عن جذوره سوف يتوه ، فالفلاح بدأ في بيع الأرض لمن يملك المال ربما ليتخلص من هذه المهنة الشاقة (وليتفرنج) فيتخلص من (الكانون والفرن) البلدي ، ويصبح من أصحاب (البوتاجازات) والأفران التي توقد بالغاز (وهذه الفرنجة) التي جعلتنا نتمزق ونتشتت وتكثر المشاحنات بين العائلة الواحدة لكثرة الصراع المادي بين أفرادها فأصبحت (6० حتة) كما يقول الشاعر أي أن كل واحد من أفرادها أصبح لا يشغله غير نفسه وفقط ، وهنا إسقاطه على الواقع العربي الآني ، فقد أصبحت كل دولة عربية لا يهمها غير شأنها وفقط ، والغرب الذي يأخذ موقف المتفرج على ما يحدث كل يوم من مذابح في الأراضي الفلسطينية على مرآي ومسمع الجميع وعبر شاشات التلفاز لدرجة أننا أصبحنا لا يهزنا منظر الدماء ولا منظر القتل ، تعودنا عليه واستكنا له بمتعة ولذة حتى ( الكُتَّـاب ) الذي خرج منه العمالقة في الأدب والثقافة والفكر وعلوم الدين أمثال : ( طه حسين ، الإمام محمد عبده ، رفاعة الطهطاوي ) لم يعد له مكان في حياتنا ، فأصبحنا بعيدين كل البعد عن الدين وتعاليمه السمحة فضاعت هويتنا العربية والإسلامية ولغتنا الجميلة وتقطعت الصلات ، وزالت (البَرَكة) من حياتنا فصرنا مجرد أشباه رجال .[ 3 ]يتميز الشاعر (عـزت إبراهيم) بأن عينه لاقطة ، ترصد وبدقة كل تفاصيل حياتنا اليومية وكأنها كاميرا شديدة الحساسية ، فيضع يده على مكمن الوجع ويستأصله بسهولة ويسر وكأنه جراح ماهر، عليم بأسرار مهنته ، فيعرينا أمام أنفسنا بجرأة يحسد عليها فيقدم لنا حالات مختلفة من البشر ولكنها تتشابه في الهم والحزن والزيف والصدق والألم والأمل في قصيدة (الناس مش دايماً صادقين على طول ) فيقول :( فاكر يوم ما كدبت عليا وقولت إن الناس دايماً بتدور على بعض بإبرة صدقتكلكني لاحظت ان الناس بتشك ف بعض بنفس الإبرة وتجرحفاكر ) ص26هنا يوضح لنا نموذج من البشر الذين يرتدون الأقنعة ، فلهم في كل لحظة قناع ، يكذبون على أنفسهم وعلى الناس بل ويصدقون كذبهم ويعيشون فيه ، فهم ليسوا أصدقاء حقيقيين ، بل يتحينون الفرص لكي يطعنوا في أصدقائهم بالكذب والبهتان .ويقول أيضاً في موضع آخر من هذه القصيدة :( فاكر ..لما لعبنا الكورة ف غيط الحلبة ودوسنا برجلينا فى وسط الزرعوهدومنا اتعكت طينكان يومها الراجل صاحب الغيط نايممطمن جداً تحت الشجرة بيحلمإن الأرض هتطرح حلبة ويحصد ويبيعويجيب لعياله هدوم للعيد ويجيب لمراته فراخ تقنيها وتكبر وتبيضوهياكل منها ويشبع ) ص29 هذا أنموذج آخر من الحياة .. البشر البسطاء الذين ينتظرون الزرعة التي تكبر ويحصدونها ليبيعون ويشترون لأولادهم ملابس العيد ، وفرخة لزوجته تربيها لتبيض وتبيع البيض ويأكلون منه ، هذا الحلم البسيط الذي يتناسب مع من يمتلك قطعة أرض صغيرة يزرعها بالحلبة ، فإن لم يعطه الزرع بات بدون ملابس جديدة ويصير العيد حزيناً على أطفاله الصغار كما يشح الغذاء وهذا يتماس مع السواد الأعظم من الشعب المصري الفقير ثم ينتقل بنا إلى نموذج آخر من المعاناة فيقول :( فاكر لما ركبنا الأتوبيس واتسرقت محفظة الراجل منهكان بيعيطوبيحلف إنه سالفهم على شان هيجيب للواد دكتور وعلاجفاكر ..أنا يومها بكيتمش بس بكيت ع الراجل والواد العيانأنا صعبت نفسي عليا وخُفت ) ص29من خلال معاناة هذا الرجل الذي سُرقت محفظته في الأتوبيس هذا الرجل الرقيق الحال نرى أن الشاعر توحَّد مع مشكلته لأنها تمسه فبكى ، ليس على الرجل والابن المريض ولكن على نفسه ، لأنه بالتأكيد قد يعاني مراراً بل ومازال يعاني من مثل هذه المعاناة فتذكر ما حدث له من قبل فبكى، وهنا يتضح لنا أن الشاعر يعيش معاناة البشر اليومية بإحساس مرهف[ 4 ]اعتمد الشاعر في ديوانه على التدوير في معظم القصائد والذي أتى بعفوية أحياناً كثيرة وعن طريق الصنعة أحياناً أخرى ، كما اعتمد أيضاً على التفعيلة القصيرة والتداعي والجناس التام والناقص والترصيع والقوافي المتشابهة والمتواترة .وتظهر قمة الصنعة الشعرية رغم أنها تبدو عفوية في أولى قصائد الديوان التي تحمل عنوان ( كراكيب ) فيقول فيها :( كراكيب دربكة / وعيون مضحكة / بتبكبك بُكاوقلوب في براح / وقلوب منهكة / وبيوت أكواخوبيوت أنتكة / ودماء في أمان / وماهيش مُسفكة ودماء مسفوكة / ومش مدركة ) ص9اعتمد الشاعر في هذه القصيدة على القافية المتواترة مثل ( دربكة / مضحكة / بُكا / منهكة / أنتكة / مسفكة / مدركة ) وأيضاً القائمة على الجناس الناقص ، فهي من القصائد المدورة المرتكزة على التداعي اللفظي وعلى الترصيع الذي أحدث موسيقى جانبية غير موسيقى الوزن الخليلي ورغم ذلك لم تفلت الفكرة من الشاعر بل قادها بحنكة المتمرس حتى نهاية القصيدة .كما استخدم أيضاً تقنيات قصيدة النثر المعتمدة على المشهدية والعادية واليومية والتداولية كما يتضح ذلك في قصيدة : ( شباك مقفول ) فيقول :رقمين في أجندة / وعلبة كبريت / وسجاير ومديليا / ومشط / ونظارة نظر / وجراب وشخير من واحد نايم جنبيَّا / وشباك مقفولوكتاب مفتوح م النص / ومقلوب على وشه وصورة راجل مدهوش بيبص عليَّا بنص عنيهومداري النص التاني ف كعب الدبوس / وتلاته جنيهنصين / وجنيه / وبرايز فضة / وجرنال / وشريط لنجاةومسجل / وصينية شاي / ووابور / وحزام / وقميص وجاكتة قديمة / وعفريتة / وجزمة / وحزمة جرجير ورغيف / وشوية ملح / وخرطة جبنة قريش / وسريسوطماطميـتين / وصابونة / وحوض مكتوم / وفانلة بانشف فيهاوريحة من الحمام بتكسَّر في الأعصاب / وفاتورة نور .. الخ ) ص18 هذه القصيدة مجرد سرد لمفردات شخصية ولكن الشاعر صورها لنا في مشهد سينمائي وكأننا نراها بأعيننا فقد رصد لنا مفردات هذه اللقطة السينمائية بدقة وبعين لاقطة لأشياء صغيرة مبعثرة داخل غرفة دون أن يجهد نفسه في صنع صورة شعرية بل أصبحت مجرد سرد مشهدي فقط . أما قصيدة (( سهراية طويلة شوية .. وحوار فاتر جداً )) فهي من قصائد النثــر التي ( تخلت عن كثير من أناقة الشعرية العمودية والتفعيلية ، واختارت لها أناقة خاصة بها تعمل - خلالها – على تأكيد خصوصيتها من ناحية وشرعيتها من ناحية أخرى ، ومن ثم لم يكن الصفاء اللغوي من بين همومها وشواغلها وأصبحت (التداولية) بديلا لهذا الصفاء ص168 فيقول فيها :( كل النهايات مش سعيدة / منجيلكش ف شينفاكر زمان / فاكر حكاية السد / وايام الُكريره فاكر بنادق الإنجليز / فاكر ميدان عابدين والله ما انت فاكر شىء ) ص39إن النص هنا يطرح شعريته خلال ابنيه المفارقة التي تتجلى أولاً في إطار زمني يجاوز فيه الأطفال زمن طفولتهم لكنهم مازالوا يعيشون هذا الزمن ) ص169 من خلال الذكريات وأصبحت القصيدة هنا مجرد كلام عادي ولم يوفق الشاعر في استخدام هذه القصيدة التي جاءت مختلفة عن تجربة (الديوان) وإن كانت تتقارب مع بعض القصائد [ 5 ]اعتمد الشاعر على الحوارية في الكثير من قصائد الديوان مثل قصائد : ( الناس مش دايماً صادقين على طول / سهراية طويلة شوية .. وحوار فاتر جداً / النخل معادش جريده لطرح التمر / حاجات مفقودة كتير / دم افرنجي / .. الخ )وكأن الشاعر طوال الوقت يتحدث مع الآخر المتمثل في ( الصديق / العدو / الأب / الأم / الأخ / الابنة / الله عز وجل ) كما أكثر من استخدام صيَغ الاستفهام والتعجب ، فالشاعر مندهش طوال الوقت ومتعجب مما يحدث من حوله بل ومستغرباً هذا التحول الذي حدث للكون / البشر / الشجر / الزرع / الكُتَّاب / الأرض / المنازل … الخكما جاء قاموسه الشعري من مفردات البيئة المحلية التي نشأ وترعرع فيها بدون فذلكة أو ادعاء فنجد ألفاظ عامية خاصة بالبيئة الشرقاوية فقط مثل ( بتبكبك / متلعبكة / بَلاك / اتعكت / تقنيها / شين / يطأطأ / نزيح / دنَّـك … الخ )[ 6 ] يسخر الشاعر من كل شئ حوله ، وتظهر هذه السخرية بشكل واضح في قصيدة (كراكيب) حيث يقول :أمور سلكانــة ومتسلكة / وأمور معقودة ومتلعبكة / وحاجات مفرطــة وحاجات ممسكة / والدنيـــا بتمشي ومتشيكــة / ولافيش ع البــال أيها أحمال / عمال بطال / مهي متودكة / وتخاف من إيه / وتخاف على إيهأيام بتفوت مهلَكة مُهْلِكة / عمارات خرابات / أحياء أموات / أزواج زوجات أجداد جدات / هتعيش ؟ / متعيش ! / هتموت ؟ / متموت ! / مهي متحبكة الدنيا هتمشي بلاك أو بِكَ / خليك أراجوز / مالها الأرجزة / مهزوز مهزوز مالها الهزهزة / يا أخينا اتهز / هتعيش في العز / والعالم كله هيضحك لكسلامات يا ضمير / تصبح على خير / النوم سلطان / والموت مملكة ..الخ ص12هذه القصيدة كلها قائمة على المفارقة الساخرة والثنائية الضدية التي تجعل المعنى أكثر وضوحاً ورويَّة ، كما تظهر السخرية أيضاً في قصيدة ( النخل معادش جريده لطرح التمر ) حيث يقول :( بتقاوح ليه ؟ / رغم انك عارف انك / واحد م الناس الناس وكمان متأكد / إن الناس الناس / موش هتخلي الناس الناستقدر على حتى الأحلام / فبتحلم ليـه ؟/ انك تعمل زي الناسوتدوس ع الناس الناس ) ص51هكذا تظهر السخرية التي تتـقطر حزناً ، وبكاءً مكتوم ، حزناً على الأحلام الهربانة والشاردة ، وعلى أن الحظ دائماً لا يحالف الشاعر / الذي ذكرني على الفور بالشاعر الراحل الصعلوك (عبد الحميد الديب) الذي أوصله سوء حظه الدائم بأن اعتقد أن الله عز وجل – قد أخرجه من رحمته بل ونساه – حاشا لله أن ينسى أحداً من خلقه ، وأيضاً الشاعر الراحل (نجيب سرور) الذي أوصله الظلم الواقع عليه أن يكفر بكل شئ ، وأن تهتز ثوابته ، وإيمانه فأخذ يسب السلطة ويشك في كل من حوله بأنهم عملاء لهذه السلطة .[ 7 ]عنون الشاعر قصائده بعناوين طويلة نسبياً في معظمها ربما من باب الاختلاف وربما من باب الدهشة وربما من باب الإتيان بصورة شعرية من خلال العنوان كما هو في عناوين قصائده : ( النخل معادش جريده لطرح التمر / موش أول مرة تموت / الكُتَّاب اللي بقى سوبر ماركت ) .لم يحفل الشاعر ( عزت إبراهيم ) برسم صوره الشعرية بدقة ، وكان كل همه الاهتمام بالحالة الشعرية التي يعيشها ، بل والاهتمام بالرؤية التي يبثها من خلال هذه الحالة بوعي واقتدار ، فجاءت قصائد الديوان متدفقة ومناسبة كأنها ينبوع ماء يتفجر ، فالشاعر يكتب قصائده دون معاناة في الكتابة ، بل يكتب وكأنه يتحدث شعراً ، لا ينمق بقدر ما يبث ، ولا يبوح بقدر ما يشير .إذن فنحن أمام تجربة شعرية حافلة بكل المتناقضات ، وعالمة بكل الخبايا ، تمتلك مقدرة فذة على شحن النفس بشُحنة من الحزن واليائس الواعي في الوقت نفسه ولأن الشاعر قد حباه الله موهبة أن يرى ما وراء الأشياء ، وهذا ما يتضح من خلال هذه التجربة الثرية للشاعر / عـزت إبراهيم ، والتي تحتاج إلى دراسات أخرى كثيرة لكي تتناول الجوانب المختلفة لهذه التجربة ، والتي لا تتسع لها هذه القراءة فهي بحق تجربة متميزة لشاعر أكثر تميزاً .

ليست هناك تعليقات: