
قصة قصيرة للأطفال
عبدالحكيم محمود
" المناقشة القادمة موضوعها ما البطولة ؟ على الجميع الاستعداد "
كان هذا هو عنوان اللوحة المعلقة فى بهو المدرسة منذ أسبوع ..
فقد كانت الأستاذة إيمان قد بدأت مع فصلها طريقة طريفة لدفعهم نحو الاطلاع والبحث وإثارة شهيتهم بشتى الطرق، كانت أحيانا تقص عليهم حادثا طريفا من كتاب لم يقرءوه فيثير فيهم غريزة حب الاستطلاع فيطلبون منها المزيد لكنها لا تجيبهم إلى طلبهم وتقول لهم فى حزم "هاتوا الكتاب واطلعوا عليه" .. وقد تقص عليهم طرفا من قصة ثم تقطع حديثها عند النقطة التى تشعل فى نفوسهم لهيب الشوق وتقول لهم "تستطيعون أن تقرءوا بقية القصة بأنفسكم" وكانت هذه الطريقة تثير غيظ نبيل بصفة خاصة ، وكان هذا الفتى قليل الصبر لا يطيق أن يظل متشوقا لمعرفة مصير أبطال القصة فكان يقول لها فى رجاء حار "أخبرينا فقط هل ستنتهى القصة نهاية أمنية أم محزنة أرجوك يا أستاذة إيمان أن تخبرينى " .ولكنها ترفض ضاحكة ..
كانت المناظرة تحت رعاية إدارة المدرسة ، وأخذ كل شخص يستعد ، لها وزاد الاقبال على المكتبة للإطلاع على الكتب التى تبحث فى سير عظماء الرجال والحروب قديمها وحديثها .
وكان على سامح مساعدة الأستاذة إيمان فى إدارة المناقشة ودعوة الضيوف ، فى البداية وقف سامح لإلقاء كلمته وقال "يجب على الجميع المشاركة فى الإجابة على السؤال المطروح ولكنى من وجهة نظرى أرى أن هناك تعريف لا نزاع فيه وهو أن البطولة هى العمل الذى يُبذل فى سبيل الدفاع عن قضية عادلة والذى يمليه مثل أعلى رفيع ، ولنبدأ الحديث على من يريد الحديث أن يرفع يده" .
تقدمت هالة قائلة "هل لى أن أوجه سؤالا ؟ لنتصور بيتا تشتعل فيه النيران ، تندلع ألسنة اللهب فى السماء وفجأة تصرخ إحدى النساء لأن طفلها الرضيع وقع فى فخ البيت المحترق ؛ فإذا بك تندفع فى غمار النيران وتجازف بحياتك فتشق طريقك وسط اللهيب وتعود أخيرا وقد أصابت جسمك الحروق ، وتحمل الطفل بين ذراعيك هل نسمى هذا العمل عملا من أعمال البطولة ؟" .
قال طارق متعجبا "هو كذلك بكل تأكيد ولكن ماذا ترينه أنت ؟" .
قالت " لو أن هذا الإنسان فعل ذلك بقصد الرياء ؛ ألا يدلنا ذلك على أن المهم هو العمل نفسه ونتيجته وليس الدافع الذى يدفع للقيام به" .
عند ذلك تعالت الأصوات وأخذ كل واحد يتكلم فى نفس الوقت ثم انبعث بالتدريج صوت استرعى انتباه الجميع "إننى لا أوافق على هذا إن الشخص الذى لا يستطيع أن يقوم بأى عمل من أعمال البطولة إلا أمام الناس أبدا لا يجازف بحياته ، عندما لا يراه أحد ؛ لأن هذا الشخص تسيطر عليه عاطفة الغرور والطموح الأجوف ، يفكر فى نفسه قبل كل شئ ، وليس على استعداد للتضحية ، وهو ما يخالف أى معنى من معانى البطولة" .
صاحت الأستاذة إيمان "أيها التلاميذ .. اطلبوا الكلمة ثم تقدموا إلى المنصة نريد أن يقول كل كلمته ، ويعبر عن رأيه دون أى تشويش ويجب على الجميع أن يلتزم بأدب الحوار الذى تعلمناه" .
رفع صلاح يده طالبا الكلمة "هل كل شخص خاطر بحياته يعد بطلا ؟ إن الناس الذين تجردوا من المبادئ يستطيعون أن يأتوا بأعمال البطولة بهذا المقياس فهل المجرم الذى يخاطر بحياته وهو يمارس إجرامه ، ينطبق عليه تعريف البطل ؟" .
هنا جاء دور سمير ليقول "نعجب دائما بشجاعة الذين يضحون بحياتهم دفاعا عن الحقيقة ، فالبطولة هى شئ تحدده عدالة القضية فلا توجد بطولة مجردة من الهدف ، إن العمل الذى يبذل فى قضية جليلة هو الذى يمكن أن يسمى عملا من أعمال البطولة ، لكنكم تقرنون البطولة بشئ موقوت يتضمن المخاطرة بالحياة ، فهل ذلك هو ما تعنيه البطولة ؟" .
تناولت الكلمة الأستاذة إيمان قائلة "كلا بالطبع .. ولكن ما بال البطولة العادية اليومية التى يقوم بها العامل الذى يحافظ على آلته وقت الأزمات ويتجاوز الخطط التى رسمت له ، ويحقق إنتاجا فائضا ينفع مجتمعه ، إن أمامكم جميعا فرصا كبيرة لتصبحوا أبطالا بوسائلكم الصغيرة إن فترة الشباب هى التى تحدد قيمتكم بالنسبة للمستقبل ، عليكم أن يسأل كل منكم نفسه ؛ ما الصفات التى يجب أن أربيها فى نفسى لكى أحيا حياة شريفة ويكون لدى من القوة ما أتحمل معه كل صعوبة تعرض لى فى حياتى ؟" .
انتبه الجميع على أصوات همهمة عندما دخل رجل طويل القامة قوى البنية ذو وجه مشرق والأوسمة الحربية تزدان بها حلته ، فقامت الأستاذة إيمان مرحبة به قائلة "أهلا سيادة العميد أشرف" ثم التفتت إلى التلاميذ وقالت "أقدم لكم يا أصدقائى أحد أبطالنا العظام فى حرب أكتوبر ووالد صديقكم شريف" .
جلس الرجل وأخذ يستمع إلى الحوار فى سعادة وعندما انتهى الجميع قالت الأستاذة إيمان "الآن حان الوقت لنستمع إلى بطل حقيقى ، فماذا يقول لنا العميد أشرف" .
بدأ الرجل حديثه قائلا " فيم تريدون أن أتحدث إليكم يا أحبابى" .
مرت برهة ساد فيها الصمت ، حتى قطعه صوت أمنية القادم من أقصى القاعة قائلة "حدثنا عن أوسمتك وسبب حصولك عليها من فضلك". استحسن الجميع الاقتراح وهمهموا بالموافقة ، نظر السيد العميد أشرف إلى التلاميذ نظرة حانية تدل على الاهتمام والتقدير وبدأ حديثه قائلا "أعرف أن الوسام يعتبر فى نظركم رمزا لعمل خارق من أعمال البطولة لكنى أخشى أن أخيب ظنكم". همهم الجميع مستغربين ، واستطرد العميد أشرف وقال " هذا الوسام مثلا لقد حصلت عليه لعبورى القناة مرات عديدة ، والقيام بعمليات ناجحة خلف خطوط العدو ، ولكنى أكبر الظن كنت سأتعرض للغرق لو لم يتح لى أن أجيد السباحة وأن أحافظ على سلامة جسمى منذ كنت فى سنكم ، ومن ذلك ترون أنه ليست هناك قصة كبيرة وراء هذا الوسام ، أما هذا الوسام الآخر فقد حصلت عليه لأننى استطعت الافلات برجالى من الحصار الذى ضربه العدو حولنا فى منطقة المضايق فى سيناء دون أدنى خسائر ، ومع ذلك لا أجد سببا للحصول على هذا الشرف لأن كل شئ كان يتوقف على الجنود الذين كانوا معى وعانوا جميع المصاعب والأخطار بكل شجاعة ، ولكن لماذا استطاعوا أن يتحملوها فى رأيكم" .
تقدم سامح قائلا "إنهم لا بد أن يكونوا أقوياء أشداء عمالقة من نوع ما". أجاب العميد أشرف "صحيح أن الجندى يجب أن يكون قويا سليم الجسم قادرا على المقاومة إلى حد كبير ولكن ذلك ليس كل شئ ، إن هناك شئ أقوى من قوة الأجسام هو قوة الروح وقوة الإيمان بالهدف ، إن رجالنا فى الخطوط الأمامية كانت أرواحهم قوية لذلك استطاعوا أن يتحملوا كل شئ ، لقد كانوا يحاربون من أجل أروع المبادئ وأسماها فى العالم لذلك تحقق لهم النصر".
وقف ابراهيم متلعثما وقد احمرت أذناه من الخجل وقال بعد تردد "أريد أن أسأل إذا لم يُؤت الإنسان قوة الإرادة فماذا يفعل ؟".
أجاب العميد أشرف "أتظن يا صديقى أن الإنسان يولد قوى الإرادة كلا إن قوة الإرادة أمر مكتسب".
صاحت أصوات عديدة "كيف يمكن اكتسابها ؟".
أجاب "كيف ؟ سؤال جيد .. علينا أن نبدأ بصغير الأمور بأقرب الأمور إلينا ما يجرى كالمعتاد ويدور فى حياتنا اليومية ، خذ مثلا النظام ، نعم النظام ؟ ، لقد سمعتم هذه الكلمة من قبل بالتأكيد إنكم تستيقظون فى الصباح وتستعدون للذهاب إلى المدرسة فتجدون الكهرباء موجودة ، والماء كذلك والغاز ثم تخرجون من منازلكم فترون الأتوبيسات تمر بكم ، والترام يعمل ، والقطار يسير ينقل الناس إلى مقار أعمالهم ، والمتاجر مفتوحة وكل فرد منصرف إلى عمله وكل فرد له ما يشغله".
أصغى الأولاد فى دهشة إلى هذا الاستطراد وتساءل نبيل"ما علاقة ذلك بموضوعنا" .
أكمل الرجل حديثه "إنكم ألِفتم ذلك بحيث تعتبرونه قضية مسلمة .. ولكن لنفرض أنك وقفت وتأملت قليلا فى هؤلاء الناس الذين يعملون من أجلك سترى أن ذلك ما كان يحدث لولا وجود اتفاق عام بين الناس ، وبعبارة أخرى وجود نظلم بينهم ، فالنظام معناه أنك إذا كنت عضوا فى جماعة وجب عليك أن تلتزم بقوانين هذه الجماعة ، وبدون ذلك يختل النظام ، ويختل كل شئ فيها .. قد يقول أحدكم أن هذا أمر بسيط وواضح لكل إنسان ، اسمحوا لى أن أذكر السبب فكل منكم يفهم ضرورة النظام فى المصانع والجيش ولكن ماذا عن الفصل وما بال المدرسة ، إن النظام فيهما له مظاهر متعددة فهو يعنى عدم الحضور إلى المدرسة متأخرا ، وعدم التكلم أثناء الدرس ، ويعنى آداء واجبك المنزلى على أكمل وجه .. باختصار أن تلتزم القواعد المقررة على الجميع".
أشار أحمد يطلب الكلمة فسمحت له المعلمة ، فقال أحمد " هل لكم أن تخبرونا كيف يخلق ذلك منى عاملا جيدا أو جنديا شجاعا مع العلم أن واجباتى المدرسية تعد أمرا بسيطا بالقياس إلى ما هو مطلوب منى عندما أكبر ؟" .
أجاب العميد أشرف "يجب أن تعملوا على تنمية قوة الإرادة منذ الطفولة كما تعملون على تنمية عضلاتكم يجب ألا يتصور أحدكم أن قوة الإرادة تأتى من تلقاء نفسها ، إن الوسام الذى يزدان به صدر الجندى وإن دل على أنه أتى عملا باهرا من أعمال البطولة ؛ إلا أنه ما كان لينال هذا الوسام لو لم يتصف بقوة الإرادة والعزم والقدرة على قهر الصعاب حتى تلك التى تبدو فوق طاقة البشر".
فى نهاية الندوة شكرت الأستاذة إيمان ضيفها وكل من شارك فى الندوة بالرأى أو بالسماع ، انتهزت أمنية تلك الفرصة لتدعوا الجميع إلى ندوة فى جماعتها للتعرف على قصة من قصص البطولة فى تاريخنا الفرعونى ، وهى قصة الملك "سقنن رع" الذى بدأ فى عهده النضال لطرد الهكسوس من مصر وتخليص البلاد من الاحتلال الأجنبى ، وكفاح زوجته الملكة " أعح حتب " وابناها كامس وأحمس وعلى الجميع الاستعداد .
على الفور تحرك الجميع ، البعض التف حول العميد أشرف وشريف ولده بجواره فخور معتز والبعض اتجه مباشرة نحو المكتبة للبحث فى تاريخ هذه القصة استعدادا لندوة جماعة القصة الفرعونية .
Powered by eSnips.com |
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق