الخميس، سبتمبر 20، 2007

شقاوة



( عامٌ جديدٌ )

عندما نظرت من النافذةِ في هَذا الصباحْ كان كلُ شيىءٍ يبدو مشرقاً صافياً ,
ها هي الشمس .. إنها تبدو أكثر إشراقاً من أى يومٍ مضى، والسماء تبدو أكثر صفاءً،
الإسفلت الأملس ، والأرصفةَ النظيفةَ اللامعةَ ... كلُ شيءٍ يبدو نضراً كيوم من أيام الربيع مع أننا فى آخر شهر سبتمبر..! !

فاليوم نعُود إلى المدرسة..وكلُ شيءٍ يبدو جديداً.. السماء
و الأرض.. الأشجار و السيارات... حتى ملابسى وحذائى وحقيبة كتبى....!!

عندما حان موعد الخروج إلى المدرسة احتضنتني أُمي بحنانها الفياض قائلة :
كلٌ عامٍ وأنتَ بخير يا ميدو ...أرجو أن تحترس لنفسك ولا تنس سندوتشاتك...
أجبتها مبتسماً : كلٌ عامٍ وأنتِ بخيرٍ يا والدتي الحبيبة..
لا تقلقي..ولكن لى عندكِ رجاء فى هذا الصباح الجديد....!!

- ماذا يا ميدو ؟
- منذ اليوم أُحبُ أن تناديني باسمى...
- وبماذا أناديك الأن يا ميدو !!؟
- تعرفين كما أعرف أن أسمى أحمد، ولم يعدْْْ من اللائقِ أن أُنادى ميدو ، وأنا الأن فى الصف الخامس ، هل رأيت رجلاً يُنادى "ميدو " !!؟-

- وماذا فى ذلك يا حبيبى !؟
- إن أسم التدليلِ هذا يُشعرنى وكأننى مازلتُ طفلاً يحبو، وأنا سعيد الآن بأنى أكبرْ ، أنظري كيف بلغَ طولى ..!! ،وفى أى الصفوف أنا !؟؟

- قالت وعلى وجهِها ابتسامةَ الفخر:
- كما تشاء يا أستاذ ميدو ...أقصد أحمد... وابتداءً من اليوم سنغلق صفحة ميدو الصغير هذه .

كان حوارنا مرحاً على ما فيه من جديةٍ ، أنا أُعَبِر عن رأيي بحريةٍ ووالدتي تتفهمُ ذلك بكل الحُبِ والسماحة... هكذا علمتنى.!! .
كانت رغبتي الشديدةَ فى الذهاب إلى المدرسة تجْعلُنى أود لو أقطع المسافةَ من بيتى حتى بوابة مدرستى طائراً ، وكان وقع أقدامى على الإسفلت يُشبه نداءاً يدْعونى للجرى...! ، فاليوم أَعود إلى أصدقائي الأعزاء زملاء رابعة ثالث..خالد.. وحازم حسام ووليد ..عاطف وأشرف وعماد... أرجو أن يكونوا معي في فصلى الجديد خامسة ثالث أيضاً ..، وكذلك مدرستى اللطيفة الأستاذة هالة ...!
كم أحُبهم وأود لو بقينا معاً دوماً ...
لقد خَطرت لى فكرةً وأنا أسيرُ الآن فى الطريق ..لماذا لا أبُقيهم معى ...؟
نعم أبُقيهم...على الأقل فى ذاكرتى، فلابد أننا سنفترق يوماً ويمضى كلٌ منا إلى طريق ..

سأكتبُ لمحةً عن كُل واحدٍ منهم فى مفكرتى ، ليبقو ا معى دوماً ولأحفظ ذكرياتي الجميلةَ معهمْ ...!!
نعم سوف أبدأ ذلك فوراً عندما أعُود...

ما كدت أصل إلى الفناء حتى أشتد الهجوم علىَّ من كل جانب، فما أكاد أحيى واحداً حتى يظهر أمامى آخر ...
هذا وليد..لقد نما بصورة مدهشة..! وبدا أطول ..!!..كما أن عاطف اكتستْ بشرتهُ باللون البرونزى ..وها هو خالد وقد أحضَر معه ألبوم كبير من الصور..وهشام هو الآخر يحمل مجموعة من القواقع البحرية أَخذ يطُلعنا عليها..............
تعالت الصيحات وكل منا مشتاقٌ أن يطُلعَ أصحابه على كل ما حدث له خلال الأشهر الثلاثة الماضية ..
لم يمض وقتٌ طويل حتى عرفنا أننا جميعا سنكون معاً أيضاً هذا العام ، وأن الأستاذة هالة هى مدرسة فصلنا وهو ما أَدخَل البهجة على قلوبنا فتعالت صيحات الفرح من الجميع.

وما هى إلا دقائق حتى أنتظم الجميع فى فصولهم وأخذت الأستاذة هالة تقول بصوتها الرقيق : أستمعوا أيها الأحباب ... تأملوا ذلك السكون الذى يسود المدرسة ..!!
فَكف الجميع عن الكلام وأنصتوا ..لقد ساد الهدوء أركان المدرسة وهو ما كان يدعوا إلى العجب ....!!
(2)
( خالد الفنان )



عندما جاء صديقى خالد إلى فصلنا منذ سنتين ، كان يجلس خلال الدر س صامتاً تماماً ، أو ينظر من النافذة وقد أمتلات عيناهُ بالدموع، وهو ينتظر أمه لتأخذه إلى منزله....!!
كان من الواضح أنه يشعر بالخجل من تلك اللكنة التى بلسا نه والتى تبدو فى إبداله بعض الحروف بغيرها، ومع أ نه كان أطَولنا قامة ويجيد عمل الأشياء التى تطلب منه إلا أنه كان من الصعب عليه تحَّمل المسئولية نحو الأشياء التى لا يكلفه أحد بأدائها...
لذلك كانت الأستاذة هالة تهتم به اهتماماً خاصاً، وكانت دوماً حريصة على شد انتباهه وإعطائه الكثير من الثقة بنفسه وذلك بحديثها عن طول قامته بكل الفخر ، فكانت مثلاً تقول :إن خالد أطول تلميذ فى الفصل وسيساعدنا على تعليق هذه اللوحة ..
أوتقول : تعال يا خالد أنت أطول من غيرك أَنْزِل هذه الكتب من فوق الرف....
وكانت دائماً ما تحرص على تنبيهه بنظرة من عينيها أو بعبارة ما قبل أن توجه إليه سؤالا ، كأن تقول :سنكتب هذه الجملة وبعد ذلك يحدثنا خالد عن معناها...!!
ودائما ما كانت تثنى عليه حتى لو كان ذلك من أجل كلمةٍ أجاد كتابتها...
حاولت كثيراً الإقتراب منه ومصادقته دون جدوى.. .. !! حتى جاء يوم هو بداية صداقتنا الحقيقية...
ر سم خالد ذات مرة حديقة كثيفة الأشجار وأر نباً مذعوراً يعدو خلال الاشجار ..كانت لوحة جميلة بحق حتى أن المعلمة اقترحت عليه أن ينسخ اللوحة على ورقةٍ كبيرةٍ وعَلقتها على حائط الفصل وطلبت منا أن نُفكر ......! !
ما قصةَ الأرنب ؟ ..ترى ماذا حدث له قبل أن يستحوذ عليه الفزع ويجرى هارباً ؟
ومم كان يجرى وماذا حدث له بعد ذلك...؟
لقد أجادَ ز ميلكم فى ر سم هذه الصورة المعبرة ..أنظرو ا الى الفزع الذى يلمعُ فى عين الأر نب المسكين !! أنظروا الى أذنيه كيف أنتفضتا إلى الوراء وإلى حركة أقدامه أثناء العدو..... !!
لم يرسم أحدكم رسماً جميلاً كهذا من زمن ...
كان من نتيجة تلك المناقشة أنَّ التلاميذ أخذوا ينظرون إلى خالد بعين الاحترام...، وشيئاً فشيئاً استطاع خالد أن يتخلص من
خجله واتفقنا على أن أقرأ له الدروس بصوتٍ عالٍ وهو يردد
ورائى..على أن يعلمنى كيف يرسم هذه الأشياء الرائعة وأصبحت صداقتنا متينة منذ ذلك اليوم...!!
وأصبحنا عندما نتذكر ذلك اليوم أجدهُ يذكر الأستاذة هالة بكل الحب والاحترام معترفاً لها بفضلها فلولا ما كانت تبعثه فيه من ثقة بالنفس واحترامها لموهبته لبقى كما هو خالد الخجول وما كان قد أصبح أمينا لجماعة الرسم ،وحارساً لمرمى فريق الفصل فى كرة القدم..


(3)

(
عيد سعيد )
كان الدور قد حل على حسام صديقى لريادة الفصل فى هذا الشهر من شهور السنة وكان عليه أن يدعو رؤساء الجماعات المختلفة لاجتماع فى فترة الفسحة...

هكذا عودتنا الأستاذة هالة، فكل منا يجب أن يتدرب علي أن يكونَ قائداً أحياناً وتابعاً في أحيانٍ أخرى، وأن يجرب مركز التبعية والقيادة على السواء ليختبر قدرته على التعاون مع الآخرين،فلا يوجد أبداً من تتوافر لديه كل الأفكار لعمل كل الأشياء .....
وحسام صديقى انسان ٌودود ، حسن الخلق ،وله بديهة سريعة، يجيد التصرف مما جعله قائداً محبوباً لنا ،
وفى الأجتماع فاجأنا حسام بقوله : -- مارأيكم فى الأستاذة هالة يا أصدقائى ..؟؟
نظر بعضنا لبعض باستغراب ..!! ، وقال عاطف :

- ماذا تقصد بهذا السؤال يا حسام ؟؟
- فرد حسام فى حزم : أريد أن أعرف رأيكم بصراحة ..!!
وعلى الرغم من غرابة هذا السؤال فى مثل تلك الأجتماعات إلا أنَ كل واحد ٍمنا أجاب مباشرة وبإجابة مختلفة ..
- إنها لطيفة جداً .،
- إنها تهتم بنا جميعاً .،
- تنزعج اذا توعكت صحة أحدنا .،
- تكثر من الأبتسام ..وحينما نودعها بعد الدرس تبتسم لنا جميعاً .،إنها لا تضن بالأبتسام على أى انسان ...
- انها تعرف أسمائنا جميعا ، وتنادينا بها .،
- انها صديقة خاصة لكل منا .
رد حسام وعلى وجهه ابتسامة واسعة :
- اذن اظنكم توافقونى أنه من الواجب أن نقدم لها هدية
- وخصوصا أن يوم غد هو عيد الأم ؟!
رحب الجميع بهذا الأقتراح ، وأوكلنا هذا الأمر لزميلنا
أشرف أمين الصندوق ،وأشترطنا عليه أن تكون الهدية
مُعبرةً عنا جميعاً ، وليست بصفة شخصية ..
فى اليوم التالى وعندما دخلت الأستاذة هالة الفصل توقفت مدهوشة ...!!!
فلقد وَجدت على مكتبها باقة كبيرة من الزهور الحمراء والبيضاء ،وإلى جانبها دفتراً ضخماً مجلداً تجليداً جميلاً ،
وصندوقاً كبيراً من الشيكولاته، وعلبة من الأقلام الملونة .
* * * * * * * * *
وقفنا جميعا ننظر بعيون مترقبة رد الفعل الذى سيحدثه هذا المنظر فى نفسها ،وكانت بجانب الدفتر ورقة ملونة سميكة (كارت) كتب عليها "هدية إلى الأستاذة هالة العزيزة بمناسبة عيد الأم مقدمة من تلاميذها فى فصل 5 /3 "

بقيت الأستاذة هالة فترة لا تدرى ماذا تقول ،ثم قالت أخيرا :
- شكرا جزيلا يا أولادي ...ولكنكم تعلمون أن خير هدية تقدمونها لى هى يوم نجاحكم بتفوق ، عندها فقط أشعر بمدى حبكم لى ..
فصاح حاتم بلهجة تدل على الحزن : إننى أعلم ذلك ،كنت أعلم أنك ستَقولين ذلك ....
لكنها ابتسمت قائلة وهى تفتح صندوق الشيكولاته :
لا داعى لأن تحزن هكذا يا حاتم ،ولنحتفل معاً بعيد الأم ،ولنبدأ بوليد ..
لكنه أخفى يديه خلف ظهره ، وزم شفتيه وهز رأسه ..،
فقالت : وليد .. ليس من الأدب أن ترفض الهدية ، تعال
أسرع وخذ واحدة، وغيرك بعدك ..

أخذ وليد واحدة وهو متردد ..
والآن خالد ثم حسن ..وهكذا انتقلت من درج إلى درج حتى فرغ الصندوق ..! !
والآن ماذا سنصنع بهذا الدفتر الجميل ، إن من اختاره يتمتع بذوق رفيع ، إنني أقترح أن نستعمله فى تدوين آراءنا فيما نقراه من كتب " قالت الاستاذة هالة".
سأل خالد فى ارتباك : ولكن ! ! .. إنه لكِ .. !! كيف نكتب جميعاً فيه ؟!
قالت : نستطيع أن نكتب بالتوالي ..فمثلاً لو قرأت كتاباً أعجبك ، عليك أن تأخذ الدفتر من دولاب الفصل وتدون رأيك فيه بخط جميل وبذلك يستفيد غيرك مما كتبت، فيحب أن يقرأ الكتاب مثلك ..
قال عماد : لقد وزعَت جميع الهدايا فلم يبق منها شىء لك
فقالت : بقيت الأزهار والأقلام .،أما الأقلام فهى لازمة للتدوين فى هذا الدفتر الجميل ، أما تِلك الأزهار الرائعة فلتبق هنا على مكتبى لنستمتع جميعاً بشذاها ...
وشكراً لكم يا أحبابي علي لطفكم .


(
4)
( أمين الصندوق )

فاز فريق الفصل فى لعبة الشطرنج بجائزةٍ ماليةٍ ، فأخذتنا الحيرة كيف نوزع هذا المبلغ ؟وهل يستحق الذين لم يشاركو ا فى المسابقة شيئا من تلك الجائزة ؟ أم من الأفضل أن نشترى بها شيئاً نافعاً لخدمة فصلنا ، خرائط مثلاً أو أوراقاً للزينة ، أو كتباً لمكتبة الفصل ....؟؟
بعد أن أعيتنا الحيلة قررنا أن نستشير الأستاذة هالة ..
فقالت : شيىء جميل شعوركم هذا أيها الأحباب ، والأجمل أن تعرفوا أن هذا فصلكم ، تقضون فيه معاً أوقاتاً سعيدةً ، وتتعاونون على أداء الأشياء . إن نجاح أى عضو من أعضاء جماعتنا هو نجاح لنا جمبعا ...
أما عن هذا المبلغ ، فأنا أقترح عليكم عمل صندوق للفصل ، يوضع فيه هذا المبلغ كنواة ليكون تحت أمركم فى أى وقت للقيام برحلة مثلاً أو شراء هدايا ، أو عمل حفلات ، أو تحسين اللوحات ، على أن يضاف إليه باستمرار ما قد تحوزون من جوائز أو تبرعات ، وأن ننتخب له أميناً يكون مسئولاً عن هذه الأشياء .
راقت الفكرة لنا جميعاً وعلى الفور وقع اختيارنا على زميلنا أشرف ليكون أمينا لهذا الصندوق .
فى اليوم التالى رأيت أشرف يحيط به بعض التلاميذ وكان حسام يتحدث باهتمام و يوجه حديثه إلى أشرف الذى أحمر وجهه وبان عليه الاضطراب ..
-إن النقود ليست نقودك حتى تتصرف بها كما تشاء ..11
فقال خالد معترضاً :
- إنه لم ينفقها على نفسه ...
فصاح وائل ..
- ما الذى حمله على شرائها ؟ إن هذا ليس من مسئولياته...
فرد أشرف متأثرا :
- إنها لن تكون هدية منى بل منا جميعاً ...

لاحظت الأستاذة هالة هذا التجمع فأقبلت نحونا وقالت :
- ما الحكاية يا أولادي ؟
أخذ الجميع يتَكلمون فى وقتْ واحد حتى عرفنا بصعوبة ما الحكاية..
لقد لا حظ أشرف أن زميلنا عاطف يلبس دائماً حذاءً تالفاً ، ولا حظ بالأمس أنه أصبح لا يصلح تماما وهو يعلم أن عاطف لا يقدر على شراء حذاءً جديدً لظروفه الخاصة ، فوالدته تعمل طوال النهار كى توفر لهم الطعام وهو يقوم على رعاية أخويه الصغيرين بالمنزل منذ توفى والده ، فقرر أن يشترى له حذاء من أموال الصندوق الذى فى عهدته .

كان هناك من يرى أن عاطف قد يستاء من هذا التصرف ،أو يشعر بالحرج عندما نقدم له هذا الحذاء ..
وآخرون قالوا أنه لا داعي لأن يستاء ، وكيف يغضب من إخوانه ، كما أن أشرف لم يشترى الحذاء من ماله الخاص ،
ولكن من الأموال الخاصة بالفصل .

قالت الأستاذة هالة :
- كان ينبغى أن ترجع إلى أو إلى رائد فصلك قبل أن تقوم بالشراء ،
- لماذا لم تقل لنا شيئا عن ذلك ؟
فأجاب :
- لم يكن هناك وقت لذلك ، لقد كنت أبحث عن الغراء والمسامير وبعض الصور التى كلفت بإحضارها ، وكانت معى النقود ، وما أن رأيت هذا الحذاء حتى تذكرت حذاء عاطف التالف وكيف كان يعانى منه هذا الصباح ،وخشيت أن يكون ذلك سببا فى غيابه غداً ، فقررت أن أشتريه وأنا واثق أن أحداً لن يعترض...
نظرت الأستاذة هالة إلى وجوهنا وقد اعتراها الخجل لأن أحداً منا لم يفكر فى هذا الأمر من قبل وقالت :
- على كل حال يجب أن نقدم الهدية إلى عاطف ، بشرط أن تكون بطريقة لطيفة ، ودون جرح لمشاعره .
قال حسام :
- لدى اقتراح .. لماذا لا نعقد مسابقة فى مادة العلوم ، وأن تكون لهذه المسابقة جوائز مغلقة للفائزين ، على أن يحصل عاطف على هذه الجائزة ، فهو متفوق فى تلك المادة ، ولا بد أنه سيحوز المركز الأول بكل جدارة ....
فى اليوم التالى تم ما اتفقنا عليه ، واستلم عاطف جائزته ،
وسعد بها أكبر سعادة ، وجاء يلبسها مسرورا ، ..........

وفى فترة الراحة لا حظته واقفاً بجوار النافذة ، وقد وضع إحدى قدميه على المقعد ، مخرجاً من جيبه منديلاً يمسح به حذاءَه بعناية ، فقلت فى نفسى ...
كم أنت نبيل أيها الصديق أشرف ، لقد أدخلت السرور على قلب زميلنا الذى لم يشعر أحدنا بأمره ، فشكراً لك .

(5)
( الفريــق )

كان الدور قد حل على كى أتولى موقع رائد الفصل فى تلك الفترة ، ولقد لاحظت أن زملائى جميعاً يقضون وقت فراغهم فى لعب كرة القدم ، كانوا يلعبونها فبل الدروس وبعدها ، بل خلال أقصر فترات الراحة ، فى الأيام المشمسة مثل الممطرة ،كانوا يأتون مندفعين إلى الفصل فى اللحظةِ الأخيرةِ ووجوههم متوردة ، يتصبب منها العرق وأنفاسهم لاهثة ، منهم من أصيبت ركبتاه أو تورمت عيناه ،وأذهانهم مشغولة بأمور تثير اهتمامهم أكثر من أمر المواد الدراسية ، وكانت الهمسات تكثر بينهم فيرتفع الصوت رغماً عنهم ॥

- احكم أنت ؟ ..انك لا تستطيع أن تكون حكماً ...
- وأنت تسمى نفسك حارس مرمى إنك لا تفهم شيئاً فى الكرة ..
وهكذاً يظلون يتجادلون خلال الراحات ، وخالد يصيح فى وجه وليد :
- ألا تعرف يا " كابتن" أن حارس المرمى المفروض ألا يجرى فى أنحاء الملعب ليشوط الكرة ؟ وأن عليه أن يلزم مرماه ..! لقد تسببت فى هزيمتنا ...
أثارت تلك الحالة اهتمام الأستاذة هالة ، ورأت كيف أثر ذلك على تحصيلنا للدروس ، وكيف انخفضت بصورة ملحوظة على غير العادة. فطلبت منى أن أجتمع معها ومجلس الفصل بعد نهاية اليوم الدراسى لنبحث هذا الأمر.
قال حسام :
- على الرغم من أنني ألبس النظارة وأفضل الشطرنج على أي شيء آخر إلا أنني أعرف جيداً أهمية الكرة لدى أصدقائي..!!
قالت الأستاذة هالة :
-لكن هذا الأمر يؤثر على تحصيلهم كما ترى
فقلت : لو سمحتم لى أنا عندي اقتراح ، لم لا ننظم فريقاً لكرة القدم حتى نستطيع أن نحقق للجميع رغبته فى اللعب ، ولكن بشرط ..!! أن يكون ذلك بنظام معين ،
وافق الجميع على الاقتراح ، وأخذنا نعرض الفكرة على زملائنا ...
-ما فائدة أن نضرب الكرة هنا وهناك على غير هدى ، وكيف نلعب دون الالتزام بالأصول الخاصة باللعبة ،يجب على الإنسان إذا أراد أن يُجيد اللعب أن يستخدم فكره كما يستخدم قدميه ...
كان علينا أن ننظم فريقنا بطريقة صحيحة
فمن يكون رئيس الفريق ؟..
عادل فهو أمهر اللاعبين
ومن يكون دفاع أيمن ؟ حازم أم وائل؟
ومن يكون حارس المرمى؟ هذا هو السؤال الأهم ، فليكن خالد.. انه أطولنا وأكثرنا مهارة فى صد الكرات السريعة..
وهكذا بعد أن نظمنا كل شيء اتفقنا على أن يكون اللعب مرة كل أسبوع فى أيام الخميس ،وأن نقترح على الفصول الأخرى أن تنظم فريقاً مثلنا ، ونطلب منهم اللعب معنا ، وأن نمتنع عن اللعب فى جميع الأيام عدا اليوم المحدد ووضعنا قاعدة صارمة وهى أن من يلعب الكرة بدلاً من أن يؤدى واجبه المنزلى يطرد من الفريق فوراً ..
ومنذ ذلك اليوم لم يعد الاصدقاء يأتون إلى الفصل بوجوه تتصبب عرقاً ولم تعد هناك مجادلاتٍ حادةٍ أثناء الدرس ،
وفى تلك الفترة أخذ الجميع يتعلمون كيف يجيدون اللعب ، وعندما حصلنا على المركز الأول فى مباريات كرة القدم بين فصول الصف الخامس كان علينا ان نهدى الكاس إلى صديقتنا اللطيفة الأستاذة هالة ، التى سعدت به وصنعت له دولاباً زجاجيا وعلقته على الحائط بنفسها بكل الفخر والسعادة.



(6)
( الحادثــة
)
عندما انضم وليد إلى فصلنا فى العام الماضى ،كان يبدو خائفاً منطوياً ، لا
يشارك فى أنشطة الفصل ، شديد العزلة لا يبدى أى تعاون فى أى جماعة..... ،
و بدأت معرفتى بوليد صديقى فى ظروف غير جيدة بالمرة،
فلقد غادرت الفصل مع التلاميذ أثناء الفسحة كما هى العادة ولما عدت افتقدت علبةَ ألواني التى تركتها على درجى ، فبحثت عنها فى كل مكان ، ولكنى لم أعثر لها على أثر ، فسألني أصحابي : عم تبحث يا أحمد ؟
- عن علبة ألوان تركتها هنا ثم لم أجدها
عندها تساءل عدد من التلاميذ :
أين وليد ؟
لقد كان مسئولاً عن تنظيم الحجرة فى فترة الفسحة ، لكنه غير موجود الآن !..لقد انصرف دون إذن ..!
فى اليوم التالى سأله حازم : أين علبة الألوان ؟
فتساءل وليد مستغرباً : أية ألوان ؟!
فأجاب شريف بصوت هادئ جاد : لقد كنت مسئولاً عن تنظيم الفصل فى فترة الفسحة، وكانت الألوان على الدرج ، ولما عدنا لم نجدها .
- اننى لم أر أية ألوان...
فقال حازم بلهجة تدل على الاصرار : إنك المسئول عن ذلك ، وإلا لماذا غادرت الفصل بدون إذن ؟
- لا شأن لك بذلك
ثم جلس فى مقعده دون أن يجرؤ على النظر فى وجه أحد .
بعد أسبوع واحد افتقد جلال علبة أدواته الهندسية ، وبعد عدة أيام اختفت مقلمة نبيل ..فسرى فى الفصل انزعاجٍ شديدٍ
لم يكن لنا فى فترات الراحة حديث سوى هذه الحوادث
قال نبيل : إن الأمر كله بدأ بعلبة الألوان .
وقال عمر بغضب : آه لو أعرف هذا الفار السارق للقّنته درساً لن ينساه
لكن وليد لم يكن يكترث بما يحدث على أية حال ..ولم يشاركنا فى تلك المناقشات أبدا.
قال أسامة : يجب أن نفتش كل تلميذ فى المرة القادمة إنه لأمر مؤسف أن نظل هكذا وكل واحدٍ منا يشك فى زميله ويسيء الظن به فى الوقت الذى يفعل ذلك أحد الجبناء ،
لكنى اعترضت على ذلك بشدة ، وقلت : كيف نقبل أن نفتش حقائب الجميع ونحن نعلم أنهم كلهم برءاء ما عدا شخص واحد؟ وكيف يكون شعور الواحد منا عندما تفتش أشياءه ، إنها إهانة لكبريائه وعزة نفسه ، لماذا لا نلجأ إلى الأستاذة هالة لتجد لنا حلاً لتلك المشكلة .؟
قال حازم من الواضح أن وليد هو الذى ارتكب تلك الحوادث.
فأجابته الأستاذة هالة : حازم .. إن أحداً لم يره ، ماذا يكون الموقف إذا اتضح أننا مخطئون ؟

فى فترة الفسحة استدعت الاستاذة هالة وليد الى حجرتها وقالت له : لابد أنك تعلم بتلك السرقات المتكررة التى حدثت فى الفصل فى الفترة الأخيرةَ يا وليد ؟ إن هذا أمر قبيح جداً لم نعتده فى فصلنا ، وأنا لا أعرف من المخطئ فى هذا الأمر ، ولكنى على أية حال كنت أريدك فى أمر آخر .
نظر إليها وليد دون أن يجيب منتظراً أن تكمل كلامها
قالت : أريد أن أعهد إليك بهذا الدولاب ، وأنت تعرف بأننا نحفظ فيه جميع كتبنا وحاجياتنا ، ها هو المفتاح ، تسلمه وأعمل على ترتيبه وتنظيمه.....! !
نظر وليد إلى المفتاح كما لو كان ثعبانا وحاول جاهداً أن يتخلص من هذه المسئولية ،
لا .. لا استطيع لا أعرف .. كيف ذلك ؟ ؟ .. سأكون مسئولاً 11
لا .. كيف أقوم بذلك ؟
لكنها أصرت على أن يستلم المفتاح دون أن تسمح له بالرفض..1
استغرب الجميع من تصرف الأستاذة هالة وأخذ كلُ واحدً منا يحلله بطريقته .. لكن حكيم كان له رأىٌ جميلٌ ، عندما خفض نظارته وقال بلهجته الوقورةَ التي بها كثيرً من التفلسف وهو يتحدث كما يتحدث الكبار وجبينه مقطب :
الحقيقة أنا اعتقد أنها تريد أن تستثير جانب الخير فى طبيعة وليد دون أن توجه له اتهام ما ، إن الثقة التى وضعتها فيه ربما تغير نظرته للأشياء وتزيد من احترامه لنفسه ، وتجعله شخصاً منتمياً إلى جماعة فصلنا ..
قال كارم : على الرغم من أنى لم أفهم شيئاً مما قلت إلا أنني أوافقك الرأي
فضج الجميع من الضحك للطريقة التى تحدث بها كارم مقلداً حركات حكيم المسرحية
كانت تلك خطوة جريئة من جانب الأستاذة هالة ولكن إيمانها بما تفعل كان له أثره العظيم ، فلقد انقطعت السرقات من فصلنا تماما وزال القلق الذى عشناه لفترة ،
وسواءً أكان المسئول عن ذلك هو وليد أم أحدا غيره فإن وليد قد بدأ يتصرف تصرف من ينتمى إلى الفصل ، وأصبح ملتزماً بالحضور كل يوم
ويوماً بعد يوم أصبحت علاقته بنا جميعاً علاقة ثقة وصداقة واحترام.



Get this widget | Track details | eSnips Social DNA



(7)
( فى مدرسة البنات )

عندما تكونت جماعة هواة الأشغال اليدوية لم يكن الإقبال عليها كبيراً ، فلم ينضم إليها سوى عشر تلاميذ من فصلنا ، وفى أحد الأيام اقترب سامح من الأستاذة هالة متردداً، ثم قال : أستاذة هالة ، إن أختي سلوى طالبةٌ فى مدرسة البنات المجاورة ، وقد أقامت مدرستهم معرضاً للمشغولات اليدوية ، وهى ترجوك تشريفها فى معرض مدرستها أنت ومن ترين من تلاميذك .
قالت الأستاذة هالة : بكل سرور يا سامح ، وهى فرصة جيدة للتعرف على شقيقتك أيضا ، ولكن عليك أن تكتب هذه الدعوة على السبورة ، ليستعد من يرغب من زملائك للذهاب معنا يوم الأحد القادم بعد انتهاء اليوم الدراسى.
وفى الموعد المحدد اجتمعنا عند ناصية الشارع ، وانتظرنا خمس دقائق حتى حضر المتأخرون ، ثم اصطففنا مثنى مثنى وسرنا فى الطريق المؤدى إلى مدخل مدرسة البنات ..

- يا له من معرض ..!!
كانت المعروضات كثيرة لدرجة أننا لم نعرف بأيها نبدأ ، نماذج للسفن والطائرات ، ألبومات للصور ، نماذج من التطريز وأشغال الإبرة ،صناديق ملونة للمهملات ، ..! !
لم يمض وقت طويل حتى جاءت سلوى ومعها مدرستها للترحيب بنا وبالأستاذة هالة
وأخذت سلوى تشرح المعروضات بكل الحماسة والفخر :
انظروا هذه كتب قد جلدت باليد تجليداً ملوناً جميلاً ..
وتلك نماذج لقوارب شراعية ، أما هذا فقفص للطيور ..
كلها من صنع أيدينا ، إن لدينا فى كل فرع عدداً لا بأس به من التلميذات اللاتى تجدنه ،فمثلاً نماذج الطائرات عشر تلميذات ، أما التجليد فعشرون تلميذة ، وأقفاص الطيور سبع تلميذات ،أما أشغال الإبرة فخمس عشرة ..
كما قمنا بتجديد مائة وعشرون كتابا لمكتبة المدرسة ..
لاذ الجميع بالصمت ، ونظر بعضنا لبعض و ألتمعت فى أعيننا نفس المعاني ، تذكر كل منا ما كان يقوله :
-انا لا أريد أن أنظف إن التنظيف من عمل البنات ..
- لماذا أتعلم الخياطة أنا لست بنتا ..
- انظروا إلى هذا الولد الخائب إنه يشبه البنات ، فهو لا يستطيع أن يعمل شيئاً ..
لقد بان الآن لنا كم كنا مخطئين ، فتلك النماذج الرائعة التى رأيناها فى مدرسة البنات إنما تحتاج إلى ذكاءٍ ومهارةٍ وبراعةٍ وإتقانٍ ، إنني لأخجل عندما أقول أنهن جميعاً متفوقات علينا تفوقا كبيراً ..
قال شريف : هل تعلمون لماذا هن متفوقات علينا ؟ إن ذلك لسبب واحد ، أن كل تلميذة فى هذه المدرسة تعمل من أجل مدرستها بالكامل ،وليس لمصلحة فصلها فقط ، وهذا هو الشيىء الذى ينقصنا .
وفى نهاية الجولة تمت دعوتنا لتناول المشروبات والفطائر من صنع فتيات المدرسة ...ايضا ..!!
وانصرفنا ونحن نشعر بالتقصير فى حق مدرستنا ، وفى حق أنفسنا ، وكان قرارنا الاستفادة من تجربة مدرسة البنات ...
حتى لو كن بنات..!!!



(8)
( الرحلة )

كان يوماً رائعاً ذلك الذى قضيناه فى رحلة خلوية ، بدأناه بركوب المركب الشراعى ، الذى تهادى فى خفة على صفحة النهر ، وقد انتشرت فى الهواء رائحة لذيذة دافئة ، وبدت الأشجار على البعد كأنها كتلة متلألئة ، تختلط فيها الألوان الخضر بالأحمر مع ضوء الشمس الفضى ...
لقد انعشنا الهواء النقى ، فأخذنا نعدو هنا وهناك ، يطارد بعضنا بعضاً ، ونتسلق الأشجار ونقفز خلف بعض الضفادع الشاردة ، أو طائر أبو الدقيق ، أو فرس النبي ،أو بعض الفراشات الملونة الجميلة ..
وبعد فترة من المرح ، تملكنا التعب والإجهاد ، فأخذنا نتلفت حولنا بحثا عن مكان نستريح فيه ونتناول غدائنا ، فاخترنا مكاناً ظليلاً تحت شجرةٍ باسقةٍ من أشجار الجميز ، وأخذ بعضنا يتسلقها ليعرف ما يعشش فيها من طيور ، ولكن سيقاننا التى احرقتها الشمس ، سرعان ما أُصيبت بالخدوش ...
وضعنا طعامنا على إحدى المفارش ، وأقبلنا على الطعام بشهية ومرح ، بعد أن أخرج كل منا ما معه من شطائر وقطع الخيار والطماطم والحلوى ، وأخذنا نتهاداها فى ضوضاء وصخب لذيذ ..
سأل وائل حامد : لماذا لا تأكل ؟
فرد عليه باقتضاب
لست بجائع
قال وائل : إن أمرك غريب حقا يا صديقى ، اننى أكاد أموت من الجوع ، وأستطيع أن ألتهم خروفاً بأكمله ، هيا خذ بعض البسكويت ..
لكنه رفض ..!!
وبعد فترة من الوقت أخذ التلاميذ يتجولون مرةً أخرى فى الحدائق ، وكانت الأستاذة هالة تجلس تحت الشجرة لتتمتع بقسط من الراحة ، فإذا بحامد يتجه نحوها ومعه بعض السندوتشات وقطع الشيكولاتة ويقول :
أستاذة هالة ، هل لك فى شيىء من ذلك ؟ ..
نظرت إليه نظرةً ذات مغزى ، ورفضت ما عرضه ، فشعر بشيء من الخجل وذهب ليأكل بعيداً وحدهُ ...!!
عندما حان موعد الرجوع ، كان الوقت متأخراً ، والكل يتحدث فى وقت واحد كل يحكى عما فعله أو شاهده فى ذلك اليوم الجميل .. وفجأة قال سمير :
لست أدرى ماذا جرى لى اليوم لقد شعرت بالجوع ثانية ..!!
أمسكت الأستاذة هالة بحقيبتها وأخرجت منها إحدى الفطائر ، وقطعتها شطائر صغيرة ووزعتها على الجميع ، فرفضوا أن يأخذوها فى البداية ، وقال سمير فى أسف : بل كُليها أنت ، إننا لا نشعر بالجوع ..
وكان سمير هو الذى اثار شهيتنا منذ قليل ..!
فقالت بحزم ، وبنبرة لها مغزى :
- كلا يا أولادي إن الزملاء يجب أن يقتسموا كلَ شيءٍ فى الرحلة ، أظنكم لا تحبون أن أخذ ركنا لأكل الطعام وحدي ؟!
-فأخذ كلُ واحدٍ قطعته وقد فهم ما تريد...
نظرت إلى حامد ، ولمحت فى وجهه حمرة الخجل ،وعرفت أن الدرس الذي لقنته الأستاذة هالة قد عمل أثره..

فى اليوم التالى كان حديث الرحلة هو السائد فى الفصل
قالت الأستاذة هالة :والآن أيها الأحباب ما أكثر شيء أعجبكم في تلك الرحلة ؟
قال حاتم : أجمل ما أسعدني هو الانطلاق فى الهواء الطلق
وقال وليد : بل أجمل شيء هو منظر الأشجار الباسقة والنخيل المثمر
وقال سامح : بل أجمل شيء هو أننا كنا معا ً
أما حسام فقال : أكثر شيء أثارني وآثر في هو منظر نهر النيل العظيم فلم أكن أتصوره بمثل تلك الضخامة والقوة والعنفوان والجمال
قال حكيم : لقد قرأت أن القدماء كانوا يقدسونه ويغنون له فى وقت الفيضان نشيد جميل ، كما يلقون فيه دمية مزينة تسمى عروس النيل كتعبيرٍ رمزي عن سعادتهم بقدومه ، هل لى أن أقرأ عليكم ذلك النشيد ؟
فأشارت المعلمة له بالإيجاب فأخرج من جيبه ورقة وأخذ يقرأ

تأتى فيفرح أطفالنا والكبار
إذ منك كل شيء حي
إننا نقدم القرابين إلى رموزنا الدينية
لكننا لا نقدم لك قربانا
إذ منك القرابين يا صاحب القرابين
انك أعظم من البحر
انه منبع اللؤلؤ والمرجان
لكنك تنبت القمح والشعير
ومادام الناس لا ياكلون اللؤلؤ
فالقمح والشعير أفضل
قالت الأستاذة هالة : أحسنت حقا يا حسام ، فالنيل هو شريان حياتنا وسر وجودنا ،وبدونه لن تكون لنا حياة
قلت : أتعرفون ؟ أن أجمل شىء فى تلك الرحلة هو ان سمعنا ذلك النشيد .

(9)
( إنسان جديد )

كارم صديقي تلميذ لطيف ، ذا وجه سمين ، وخدين ورديين ، وعينين سمراوتين لامعتين ،وأذنين بارزتين كبيرتين ، ودائماً ما كان يسامرنا بأنواعٍ مختلفةٍ من القصص ، ويقلد أصوات الحيوانات تقليداً بارعاً ، وأحياناً ما يلهو بالصفير أثناء الدرس أو يقلد حركات زملائه ، كما كان يقلد المدرسات فى بعض الأحيان،
وكانت له براعة فى المحاكاة بحبث كان تقليده يحدث ضجة فى الفصل تجعله يزهو بما حققه من من إعجاب ، بينما هو لا يضحك أبداً ..!! بل يؤدى ألعابه بوجه جامد ، وقلما تبدو على وجهه ابتسامة صغيرة ..
لكنه للأسف لم يكن يهتم بدروسه ولا بنظافة كراساته ..!!
تناولت الأستاذة هالة كراسته ذات مرة وقالت : إن كراستك قذرة جداً ، كيف أستطيع أن أمسكها ؟ إنها تدعو إلى الاشمئزاز
فأستدار كارم إلى الجهة الأخرى وقال : لا تمسكيها إذن ....
فقالت : أيليق بك أن تخاطب معلمتك بهذه اللهجة ، أنت من اليوم لم تعد تلميذى ..
فأجابها بعدم اهتمام : أنا لم أقل شيئا

كان ذلك أمراً غريباً على فصلنا ، أصابنا بالذهول ، فلم بسبق أن أجاب أحدنا مدرسته بتلك الطريقة ...!!!!
يوم بعد يوم أخذت تصرفاته تسوء أكثر ، ويرفض أن يطيع أى شخص ، ويمتنع عن أداء واجباته حتى أصبحنا فى حيرة من أمره، لا نعرف ماذا نصنع من أجله ..!!
لكننا فى النهاية اتفقنا على أن نتجاهله ، حتى أننا لم نعد نضحك من حركات وجهه أو محاكاته لا صوات الحيوانات ، فهو ينبح ويموء كما يهوى لكن أحدا لم يكن ينظر نحوه ..
عندما لاحظ كارم أنه منبوذ من زملائه أخذ يسأل كل من يقابله : لماذا تبتعدون عنى ولا تستعينون بى فى أى نشاط من أنشطة الفصل ؟ ماذا حدث ؟..
أجابه حسام: إذا أردت أن يحترمك الناس يجب عليك أن تحترمهم قبلاً ، وعندها فقط تكون عضواً مساوياً لغيرك من أعضاء الجماعة ، وعليك أن تعتذر عما بدر منك نحو الأستاذة هالة ، فهى تحبنا جميعاً ، ولا تريد سوى مصلحتك..
لمعت دمعة فى عين كارم وقال : هل تعلمون ؟.. ذات مرة أخطأت فى أداء واجبي وتلوثت كراستي ببعض البقع ، فحزنت لذلك ووضعت علامة على الصفحة كلها وكتبت أسفلها بحروف كبيرة " عفوا هذه الصفحة سأعيد كتابتها "
ثم أعدتها كلمة كلمة .. لكن المعلمةَ شطّبت على الصفحة كلها بالقلم الأحمر وأعطتني أربع درجات ..!!..
ومن يومها أصبحت حزينا ... وقلت لماذا لا يعاملنا الكبار بالاحترام الازم ؟ لماذا يستخفون بنا ويحرموننا من العطف والحنان ؟ بالرغم من اعترافنا بالخطأ ورغبتنا فى تصحيحه ؟
ما أن علمت الأستاذة هالة بهذه الحكاية حتى غفرت لكارم تهوره وقررت أن تعيده إلى الجماعة بطريقتها ...
ففى صباج أحد الأيام قالت :أن لدينا دعوة للمشاركة فى حفل خاص تقيمه دار الايتام التى بجوارنا . وأنا أقترح أن تكون مشاركتنا عن طريق عرض تمثيلى ..


قال أشرف : لكننا ليس لدينا جماعة للتمثيل !!..
فأجابت : ولماذا لا نبدأ إذن فى تكوين تلك الجماعة من الآن ؟ على أن يرأسها كارم ، ولقد عثرت على تمثيلية قصيرة تصلح للمشاركة بها ..هيا نقرأها
سعد كارم سعادة غامرة بتلك الثقة ، وعندما بدأنا العمل أخذ يعمل بجد وحماس شديدين وفكر فى إضافة بعض النكات المضحكة إلى دوره حتى أصبح خير ممثل فى تلك الحفلة التى أقامتها دار الأيتام ، كما أن الأطفال هناك أحبوه جدا وعقد صداقات جميلة مع العديد منهم ، وطلبوا منا جميعاً أن نأتي لنزورهم ..، وفى الحقيقة أن زيارتهم كانت تحقق لنا الكثير من السعادة لذلك قررنا أن نحمل إليهم الهدايا ونذهب لنسامرهم فى أقرب فرصة
وأصبح كارم منذ ذلك اليوم أشد أعضاء جماعتنا حماساً ، كما تغير بالفعل وأصبح ملتزماً حدود الأدب فى أثناء الدرس ولا يسمح لذهنه أن يشرد أبداً وتوثقت صلته مع المعلمة ومع جميع التلاميذ دون أن يفقد روحه المرحة ، لقد أصبح إنسان جديد .

(10)
( الامتحان )

اقترب العام من نهايته وأخذ الجميع في الاستعداد ليوم الامتحان بكل الهمة والنشاط، والأستاذة هالة تراجع معنا دروسنا حتى انتهينا من مراجعة كل شيء..
جاءتنا فى أحد الأيام قائلة : أعلم أنكم جميعا مشغولون فى الاستعداد لامتحانكم النهائى ، ولكن أرجو منكم ألا تخافوا ، فيوم الامتحان هو يوم الجائزة لكل من اجتهد وعمل طوال العام ، حيث يشاهد نتيجة جهده ، ويقطف ثمرةَ تعبه وكدِه ، ولكن ماذا عن جهودنا فى الأنشطة الأخرى نريد أن نعرف ما حققنا من نجاح أو إخفاق حتى نستفيد مما قد نكون وقعنا فيه من أخطاء لنتجنبه في الأعوام القادمة، ...
أخذ أمناء اللجان يستعرضون أعمالهم طوال العام ،وكل واحد يتحدث عما حقق من انجاز ..حتى جاء الدور على صديقى أشرف أمين الصندوق الذي تحدث عما قمنا به من مشتروات ورحلات وكتب وهدايا ومسابقات وجوائز ومع ذلك فما زال بالصندوق مبلغاً محترماً من المال ففى أى اتجاه ننفقه ؟1
اقترح كارم أن نوجه جزءاً منه إلى أصدقاءنا فى دار الأيتام !!
وقال وائل : لقد شعرت بألم شديد صباح اليوم عندما شاهدت بعض العمال يقطعون شجرة قديمة على جانب الطريق وتمنيت لو أستطيع أن أمنعهم ، وعندما اقتربت منهم سألت أحدهم عن سبب ذلك : أجاب بأنها تعوق الطريق وتهدد المارة ، قال ذلك دون أن يبدو عليه أى اكتراث بما يفعل ..11
لذلك اقترح عليكم أن نقوم بشراء ما نستطيع من أشجار صغيرة ، وندعو كل من يرغب أن يأخذ شجرة ليزرعها ويتعهدها بالرعاية حتى تكبر ..
قال سامح : نعم ما أجمل هذا الاقتراح فبغير الأشجار أين نجد الظل الوارف عند ما يشتد الحر ؟
قال وليد : كما أنها مساكن للعصافير التى نتمتع بتغريدها الفراشات التى يسعدنا منظرها
قال خالد :وثمارها غذاء لنا
قال حكيم : لكن يجب ألا ننسى أننا دائماً بحاجة للأخشاب لنصنع منها أبوابا ونوافذ ومقاعد ومناضد ومساكن لنا كما أن الأغصان الجافة مصدر جيد للتدفئة
قال أشرف : ولكن ماذا عن الأكسيجين الذى نتنفسه فلولا الأشجار ما وجدنا ما نتنفسه ولما كانت لنا حياة
أثنت المعلمة على كلا الأقتراحين وقالت : أتعرفون يا أصدقائي أن الذى يزرع شجرة ويسقيها ويرعاها لا يقدر على اقتلاع شجرة ، وكأننا من خلا ل هذه الفكرة ننقذ شجرتين ، شجرة جديدة تولد وشجرة قديمة نحميها من الاقتلاع
وافق الجمبع على الاقتراح وأبدى كلَ واحدٍ استعداده للمشاركة فى هذا المشروع ليكون خير ختام لعامٍ دراسىٍ طيب سعدنا جميعا فيه وأستمتعنا بصحبتنا معاً ..
وفى النهاية أخذ السؤال يتردد اصحيح أن الامتحان شيء رهيب ؟..كيف نجيب ؟ ..هل نستطيع أن نجيب على جميع الاسئلة ؟..
أخذت المعلمة تطمئن قلوبنا ، وابتسامتها المشرقة تملأ وجهها الصبوح وتبعث فى قلوبنا السكينة وتقول : اننى واثقة من ذكاءُ أبنائيِ وقدرتهم على اجتياز أى امتحان فلا تخافوا ...
ولقد صدقت ، فكانت النتيجة مشرفة وحصل ثلاثة من زملائنا على الدرجات النهائية ، فغمرتنا جميعاً نشوةً السرور بالنجاح

مع قدوم الصيف وإجازة طويلة ممتلئة بالنشاط والتسالى والمتع بعد أن قضينا سنة من أعمارنا ، وأحتفظ كلٌ منا في ذاكرته بأحلى الأوقات ، واحتفظت أنا بما دونته كأحلى الذكريات .

تمـــــــــــــــت

ليست هناك تعليقات: