الثلاثاء، مايو 08، 2007

علبة من القطيفة الحمراء

Get this widget | Track details | eSnips Social DNA



ادب الحرب


علبة من القطيفة الحمراء


قصة قصيرة


صيف سكندري مر كحلم جميل بعد أن فتح لقلبي المغلق أبواباً من البهجة أنعشت مسام روحي لتلقي كل ما في هذه المدينة الساحرة من جمال ونشوة ..

كيف لي أن أغادرها و

قد عشقتها من أول يوم .. من أول سحابة أمطرت فوق رأسي المتعب .. من أول لحظة على شاطئها الثري المفعم بالحياة والصخب وهاأنا امضي نحو المجهول .

فاليوم تعلن نتيجة الدورة التخصصية ح . ح ونوزع على الوحدات ، إحساس مقبض ينتاب المرء عندما يكون مصيره معلق في قرار يصدره آخرون .

وكانت المفاجأة صاخبة !! "حلايب" .. آخر نقطة في الجنوب الشرقي .. يا لها من مفارقة عجيبة !.. أحلم بالإسكندرية فأذهب إلى حلايب .

كان حلمي .. مكان أنعم فيه بالسكينة .. أمارس دوري دونما مشقة ولكن أنى لي أن أفر من قدري!!

عندما دلفت من أسوار الكتيبة ، كانت صدمتي قاسية ، هاهو مقر القيادة ، مجموعة من الخيام المتناثرة في وادٍ منبسط تحت القيظ والهجير فكيف يكون حال النقاط .

كان قائد الكتيبة رجلاً مرحاً ، متفهماً ، استقبلني استقبالاً طيباً ، وطمأن خاطري وكرر على مسمعي الكلمات التي طالما يرددها القادة من أن الضابط الاحتياط كالضابط العامل ، وأن كلٌ يؤدي دوره في خدمة الوطن ، وعلى الفور تم إلحاقي بالسرية الأولى المتمركزة على خط ممتد لمائة كيلو من "غُبَّة عيسى" و "مرسى شلال" و "سواكن" و "سروح أبو رماد" وكان قائد السرية برتبة "الرائد" .. رجل متوسط القامة كبير الرأس ذو عينان ضاحكتان وصوت خافت، ما أن رآني حتى ألقى على رأسي جميع المهام، مما أكسبني خبرة كبيرة في وقت قصير، كان همه الدائم هو تأخر ترقيته وإحساسه بالغبن لوجوده في هذا المكان المنفى، لذلك كانت إجازاته تطول، حتى تمكن أخيراً من الانتقال إلى مكان أقرب إلى بيته وأبنائه .

فجأة وجدت نفسي مكلفاً بقيادة السرية لحين وصول من هو أقدم مني، كان يؤلمني استجابة أفراد السرية من الجنود وتراخي صف الضباط في أداء المهام ، وكان التحدي بالنسبة لي كبيراً ، كيف أتعامل مع هؤلاء الناس وأغير من نظرتهم الفاترة نحوي .

كان لدي العديد من الرقباء وكل منهم يرى نفسه أحق مني بهذا الموقع ، نظراتهم فاترة ، يحيونني بتراخٍ وأعينهم تقول أنهم يمثلون دوراً غير جادين فيه ، كان أحدهم يرفع يديه لتحيتي وكأن بها أكياس الرمل حتى كلمة أفندم كانوا يستكثرونها فيقولونها بتراخْ "تمام يا فندي"

كان علي أن اعد قرار قائد السرية في ضوء المهام الموكلة وتنظيم التعاون وتحديد المهام للوحدات الفرعية فصائل وأفراد لكني لم أكن راضياً أبداً عن مستوى جنودي لقد أخذتهم حياة الجبل القاسية وأصبح جل همهم إعداد الطعام وتوفير المياه والقيام بخدمات صورية ، طلبت من مساعد السرية تنشيط الأفراد وإعادة تأهيلهم ، فتعلل بأنه "هجان" ولا يفهم في مواضيع التعليم الأولي ، شرحت لقائد الكتيبة الموقف وطلبت منه إرسال أحد المساعدين ذوي الخبرة لمعاونتي في تجديد حيوية السرية ، نظر لي نظرة متعجبة تحمل ألف معنى وابتسم ولم يجيب ..

كان يوماً من أيام يناير الباردة والريح تعوي طوال الليل والمطر المنهمر ينقر نقرات منتظمة على نافذتي مما حرمني النوم .

جاءني صوته كالحلم كصوتٍ يأتي من المجهول ونقرات على باب استراحتي ، ناديت وأنا بين النوم واليقظة ، دخل الجندي : تمام يا فندي ، الصول محمود عايز يقابل سيادتك .

اعتدلت في سريري وأشرت إليه أن يدخله .. كان رجلاً نحيلاً متوسط الطول تبدو عليه أمارات الثقة والكفاية مشدود القامة .. بادرني بأداء التحية في ثقة واعتزاز "تمام يا افندم" مساعد أول "محمود حسيب" مساعد السرية الأولى .

: أهلاً وسهلاً .. تفضل يا حضرة الصول

جلس أمامي فبدا أكبر من حجمه كان وجهه باشاً ومقبلاً عليَّ كأنه يعرفني منذ سنين، رحبت به وأخبرته بطبيعة المهمة التي طلبته من أجلها وحاجة الأفراد إلى جهد مكثف لاستعادة لياقتهم الحربية وتنمية استعدادهم القتالي

: اطمئن يا أفندم إن شاء الله أكون عند حسن ظن سيادتك .

طلبت من الرقيب "بشير" أن يجمع السرية ليقدم لهم المساعد محمود ، فاجأتني معرفته بهم جميعاً ..

كانت لدى هذا الرجل معرفة عميقة عن الناس وكان يملك قدراً كبيراً من الفراسة الفطرية المدربة ، كان يدرك أن جنوده كأي إنسان لا يحبون أن يكونوا خاضعين ، لذا كانت تتجلى موهبته الفذة في أن يحوز ثقتهم ويكسب ودهم فتنفتح له قلوبهم بدافع من عند أنفسهم وعندها كان يستطيع بكل سهولة أن يجعلهم يتقبلوا أوامره وتنفتح له عقولهم لاستيعاب أصعب المهام وتنفيذ أقسى التدريبات ..


لم يمض وقت طويل حتى جاءني "حسيب" مغبر الشعر والثياب يطلب مني إجراء اختبار لجنودي لمعرفة مدى استيعابهم للتدريب .. كان الفارق مذهلاً بين اليوم الأول لقدوم حسيب وهذا اليوم .

أمرت بصرف وجبة إضافية لجميع الأفراد ومضاعفة كمية المياه مكافئة لإلمام الأفراد بمهامهم.

وفي المساء كان السمر والغناء الجميل ليصدح الجندي "فراج" بلحن جنوبي .

" نعناع الجنينة المسقي في حيضانه .. شجر الموز طرح ضلل على عيدانه .."


يوماً بعد يوم توثقت العلاقة بيني وبين الصول "محمود حسيب" ، أصبح أكثر إقبالاً وأقل تحفظاً ، فتح قلبه وحكى عن أهله في قنا وبيته في القاهرة وبناته "هدى" خريجة السياحة والفنادق التي تعمل في فندق رمسيس وإحساسه بالفخر عندما يمشي معها في شوارع القاهرة متأبطة ذراعه بكل الإعزاز والإعجاب بشخصه .. "ومنى" الباحثة في مركز البحوث الزراعية وزوجها "حازم" وتقديره لكفاحه من أجلهم ..

و"هشام" .. وآه من هشام !! الولد الشقي .. إنه آخر العنقود ، وهو أمله وبسمة حياته ، كان خائفٌ عليه وقلق على مستقبله .. يأمل ألا يموت حتى يراه ضابطاً ليحقق له حُلماً قديماً طالما ظل يراوده .


رويداً .. رويداً عادت الأيام إلى سيرتها وأصبحت تمضي بطيئة متثاقلة متشابهة والحديث بيننا يحمل آفاقاً لا تنتهي . في ذلك اليوم كانت شمس الشتاء الخافتة تتسرب متثاقلة عبر نافذة الاستراحة مما أضاف إلى كوب الشاي الذي أعده حسيب بنفسه مزيداً من الدفء والحميمية ..

شيء ما جعلني أسأله : أظنك قد حاربت في أكتوبر يا حاج محمود لقد فهمت ذلك عندما احتضنك اللواء "سمير" وربت على كتفك وهو يقول : أتذكر عيون موسى يا محمود ماذا كان يقصد عندها ؟

لمعت عيناه الضيقتين ببريق أنار وجهه الأسمر الجنوبي الصافي رائق الابتسامة ولم يرد .. استغرق في صمت طال حتى كدت أنسى السؤال .. مد يده إلى صندوق ذخيرة فارغ يحفظ فيه ملابسه وحاجياته ، أخذ يعبث به ثم أخرج لفافة من القماش وأخرج منها على طريقة الحواة علبة من القطيفة الحمراء ، أيقنت حينها أنه يريد أن يريني شيئاً ما ، اقترب مني بحرص وفتح علبته وهو يقول بفخر : أنظر!!

كانت العلبة تحتضن وساماً من أوسمة نجمة سيناء ، تأمله في صمت وأغلق العلبة في حرص ودسها في مكانها كمن يخفي كنزاً ثميناً وصمت لبرهة ثم نظر إلى الأفق كمن يستلهم حلماً قديماً وقال بحسم : لكي تعرف ما حدث في 1973 يا سيدي يجب أن نذكر ما حدث في 1967 ..

كانت مهمتنا كما هي الآن المراقبة والإنذار والإبلاغ الفوري عن أي تحركات برية أو جوية في الجانب الآخر ومنع التسلل ومكافحة التهريب بجانب أعمال التنصت لكننا فجأة صحونا على قصف مكثف بالطائرات لمواقعنا ونحن نطلب المدد دون جدوى كنا كالريشة في مهب الريح . كنسق أول دمر العدو النقاط واكتسح الحدود بمدرعاته وقواته البرية .. فقدنا سلاحنا وذخيرتنا ، أدرنا ظهورنا للعدو ، كنا في غاية التعب واليأس لدرجة أننا لا نملك القوة لندير وجوهنا .. لا ندري إلى أين نذهب ، حفاة جوعى لا نملك الذخيرة ولا حتى الماء كان إحساسنا المؤكد هو الفناء ، سقط كثيرون منا دون قتال .

لمعت دمعة صغيرة في جانب عينيه ، حاول جهده أن يمنعها دون جدوى ، كنت أود أن أطلب منه أن يتوقف ، لكني لم أفعل ، كان كمن فتح جرحاً متقيحاً ومصمما على تطهيره

: كانت الهزيمة قاسية علينا .. خصوصاً عليَّ أنا كجندي محترف ، وجدت في الجندية ذاتي بعد أن تركت قريتي وشعرت بنقلة في مستوى معيشتي ، من فلاح معدم يمشي في طريق مسدود ، كنت قد بدأت تواً حياة جديدة آمل ألاَّ يكتب على أطفالي نفس مصيري وألا يلقوا المعاناة التي قاسيتها في طفولتي وهاهي آمالي تنهدم في لحظة .

كانت الهزيمة لحظة فارقة في حياتي لا شك .. عدت من سيناء ماشياً على قدمي مع مجموعة من الجنود والضباط من مختلف الأسلحة مسترشدين بالنجوم حتى وصلنا إلى شاطئ "بور سعيد" منهكي القوى لتنتشلنا قوارب من تلك العاملة في القناة .

لم يمضي وقت طويل حتى تم إلحاقي بإحدى كتائب المشاة الميكانيكي ، كانت أياماً عصيبة قضيناها .. تملأ نفوسنا الحسرة كلما نظرنا إلى الشاطئ الشرقي ، وتتولد المرارة في حلوقنا وكل منا يتحين فرصته للعبور للثأر من أولئك القتلة ، كان كل منا يعتبره ثأره الشخصي فضلاً عن كونه ثأر الوطن حتى جاءت ساعة الصفر …!!

كانت مهمتنا الاستيلاء على موقع مدفعية "عيون موسى" الحصين ، كان من أهم المواقع وأكثرها خطراً حيث يشرف على "خليج العيون" شرق القناة وكذلك خليج السويس ومدينة السويس وبور توفيق غرب القناة لجانب طريق "رأس سدر" وكل طرق التحرك داخل مدينة السويس و"عتاقة" وكان لنا عند هذا الموقع بالذات ثأر قديم حيث تمكن من ضرب مصانع البترول السماد ومنشآت مدينتي السويس وبور توفيق ..

كان الموقع مجهزاً من غرف من الخرسانة المسلحة تتحمل انفجار قنابل الطائرات والمدفعية وتم تأمينه ضد أشد دانات القصف الجوي بكمرات الحديد ومكعبات الخرسانة وطبقاتٍ من "الدقشوم" وبوابات من الصلب زوده الخنازير بوسائل الإنارة واحتياطيات من المياه عن طريق مواسير ومطابخ وأجهزة التكييف وكل ما يمكن أن تتخيله من وسائل للترفيه ، كذلك تأمينه بحقول ألغام ضد الدبابات والأفراد وكان اقتحامه سيمفونية بحق لا يمكن أن تنسبه لشخص دون الآخر .. تم تدريبنا على المهمة على أرض مشابهة لمسرح العمليات وعلى نماذج مشابهة للنقط الحصينة .. قامت عناصر الاستطلاع بالحصول على المعلومات الكاملة عن نشاط وأوضاع العدو داخل وخارج الموقع .. بعد العبور وتأمين الكباري والمعابر ، تم تكليف ك 21 مش ميكانيكي بمهمة الاستيلاء على النقطة، مع دعمها بسرية دبابات ، كان كل منا يتسابق ليكون ضمن مجموعة الاقتحام .

في يوم 9 اكتوبر.. اتجهنا نحو الموقع بعد قصفه بالطائرات والدبابات والمدفعية، تم الاشتباك بالدبابات والصواريخ م د ضد دبابات العدو وتمكنا من إصابتها وإسكاتها بسرعة مذهلة ثم قامت مجموعة المهندسين بفتح ثغرة .. اندفعنا مجموعة الاقتحام داخل الثغرة وقاتلنا قتالاً متلاحماً في الملاجئ و"الدشم" و"الخنادق" حتى تم تطهير الموقع من معظم أفراده .. وفرار الباقين تاركين الموقع سليماً .. وارتفع العلم المصري عليه .

هذا القتال المتلاحم هو الترياق الذي شفاني من أثر الجرح الغائر في نفسي. من يرانا حينها يعتقد أن كل منا يريد أن يفقد حياته عندما يفصل نفسه عن خط المعركة ويندفع إلى الأمام كمن يعانق الموت .. كنا في سيناء ندافع عن بيوتنا في قنا والقاهرة والزقازيق وكل بقعة من أرضنا نقتص من هزيمتنا ونحرر أنفسنا من عار لم نشترك في صنعه .


عندما انتهى .. كان النهار قد انتصف وتذكرت أن عليَّ أن أعد حقيبتي لأغادر سريتي إلى الأبد فلقد انتهت مدة خدمتي ..!!


في المساء ودعته بعد أن تعانقنا عناقاً حاراً وركبت السيارة تاركاً جزئاً من نفسي هناك في "حلايب" حاملاً معي مدداً لا ينضب لحياتي القادمة …..

ليست هناك تعليقات: