الاثنين، أبريل 30، 2007

دراسات نقدية للاستاذ العربى عبدالوهاب


افاق الرواية وازمة الجيل

اهتمت الرواية الكلاسيكية منذ أواخر الستينات باختراق أنماط الكتابة الروائية . كانت الرواية قد استنفذت أغراضها أو لم تعد تثير بشكل كاف معظم كتاب السرديات فى الرواية والقصة وتحديدا بعد أن ألقت النكسة بظلالها الكابية وانحسار المد الثورى وخواء الخطاب الأيديولوجى . كان من الطبيعى أن تظهر النزعات المتعددة عند الكتاب الذين لجئوا إلى اكتشاف مواطن الخلل ، ومواجهة فكرة البطل الاشكالى الذى يتعارك مع المجتمع بقيمه الاستبدالية مكتشفا زيفها واصلا إلى صيغة جديدة للتعامل . فتراجعت الواقعية التسجيلية على أيدى روادها فى مصر وبرزت أنماط من الروايات تمثل اختراقا للمعنى الكلاسيكى للبطل سائرين على درب الرواية الجديدة التى تقوم كما نرى على مجموعة من المعارضات . وإذا كانت المعارضات السالبة التى يراد بها مناهضة الأشكال والقوالب التقليدية للفن الروائى ، فإنها سرعان ما تتحول إلى قواعد إيجابية لبناء نوع فريد وثورى من القص (1) ..
إن هذه النزعة نحو التجديد لم تجرف أيضا الروائيين إلى اعتناق رواية البطل المضاد حسب مفهومها الغربى وإنما قدمت البطل المهزوم ـ كما فى رواية سمير الفيل ظل الحجرة ـ وهشمت الشكل الصارم فاتحة أبوابا جادة للاستفادة من الرمزية فى كتابة الرواية السياسية كإفادة جمال الغيطانى من ابن إياس لاستشراف القاهرة المملوكية . ولكن إلى هذا الحد كانت خصوصية المكان واستيعابه بكل مكوناته التراثية والفلكلورية والشعبية لم تتبلور بعد .
وفى هذا البحث نجد أن صلاح والى فى عائشة الخياطة لم يستفد فقط من الاسطورة بل خلق أسطورته الروائية وفعَّل الموروث الشعبى ليقدم رواية مغايرة تماما للواقعى وأضفى على الشخصيات بعدا عميقا مستوحى من الوعى القروى ورغم أن رواية عبد العزيز عبد المعز لعبت فى نفس المنطقة بالتنقيب فى أعماق ذلك الوعى . إلا أنها توقفت عند استلهام الخرافة وبعثتها من منطقة الظل من جديد وطرحتها على سطح الرواية فامتزجت دماؤها بدماء النص .
عائشة الخياطة
صلاح والى(2)
إذا كان الفن رسالة تحوى عددا لا يحصى من الأسئلة المهمة التى تجوس فى خلجات الانسان بحثا عن ماهية الوجود وسر الحياة وتفرد الذات فالنص الأدبى يخلق ذلك المعادل الموضوعى عن واقع الانسان وعلاقته بذاته وبعالمه وهو ليس معنيا بالاجابة بقدر ما هو معنى بالسؤال والاحتواء والتشكيل الفنى الجديد والجيد الذى يتميز بقدرته على اختراق الوجود بحثا عن إجابة .
رواية عائشة الخياطة تمتص هذا الوعى الجمعى بحكاياته الشعبية وخرافاته القديمة وأحلامه وأوهامه وكوابيسه وأسئلته التى لا تجد جوابا وشخوصه المدفوعين بحمى الكشف ورغبة الوصول وشخوص أخرى ذات قدرات خاصة هم حملة الأسرار كأبناء الآلهة القدماء فى الأساطير الإغريقية والفرعونية حطوا على أرض السكاكرة المكان الخاص / الأسطورى " كما قشرت السكاكرة عشب قدميها فكان الكون " ص 108 .
إذن ثمة وجود خاص لقريته / السكاكرة فهى أول القرى التى أبدعها زارعو القرى " لهذا فإن إبداعا أشد تميزا ـ كوجود السكاكرة ـ لا بد أن تتبعه فترة راحة .. وهم فى راحتهم يدخلون إلى سراديب اليوم السابع ويتدفقون عرقا ويغيبون فى الضباب وتمضى فترات طويلة من الراحة ثم يعودون لاستئناف زراعة القرى أو مهام أخرى جديدة " ص117 .
كأبناء آلهة من حواليهم تنتشر الشخوص العادية / النمطية الساعية لكشف المستور ومعرفة الأسرار رغبة فى الوصول لكينونة الوجود الخاص بهم فهم يسعون لمعرفة حكاية عائشة الخياطة فيتعثرون فى فاطمة السبعة أمها وفى شلبية وحبيبة وحنونة وست الدار وهؤلاء من ذوى القدرات الخارقة يرون الكافورة تسقط فجأة ثم تنهض والمحشى ينضج على كوانين النار فى بيت حبيبة ولا أثر له حينئذ يكتشفون أنهم عند أول طريق المعرفة يحومون كالفراش حول النار .
ولأن الأسطورة حاولت أن تجسد الوعى لدى الإنسان الأول تجاه الكون لتعكس رغبتهم فى اختراق السر والمعرفة فهى حسب تعريفها الوظيفى لفراس السواح " هى قصة تعليلية تفسر الأبطال والمعتقدات وغيرها وغرضها تفسير وجود العالم والحياة والموت والإنسان والوحوش والطقوس المقدسة والعادات وما إلى ذلك من الظواهر الغامضة" ( 3) .
أيضا تولدت الخرافات والحكايات الشعبية بعدما عرف الإنسان الإستقرار والتجمع وظهرت القوانين وتشكل الوعى الجمعى فتحدد الزمان وتعين المكان وتبلورت الحكايات حاملة معان أخرى أقرب للإدراك كما جاء فى رواية عائشة الخياطة وهو تنمية تلك الحكايات بل وتوليدها / خلقها .
فهل توقف الكاتب عند استعراض حكايات الجن والعفاريت وتصوير خوارقهم بينما الإنسان يقف مصابا بالدهشة والارتباك .
إنه تجاوز تلك النظرة التقليدية للموروث الشعبى بل قام باختراقه بشخوص كفاطمة السبعة المولودة لخلاصة سبع عائلات من الجن والإنس هى خلاصة الغناء وروح المكان المحتشد بالغموض والخرافة وإليها تنتسب عائشة الخياطة مع إحاطة مولدها بالغموض وتعدد الحكايات حولها وعدم تحديد من تكون أمها أهى حبيبة أم شلبية أم حنونة أم فاطمة السبعة وانتقالها / ولا أقول موتها حين تتحول إلى هشيم / كعالم الجن الذى يموت محترقا ومتحولا إلى رماد ثم حلولها فى عائشة جديدة يجعل منها شخصية أسطورية .. وامتلاك شخوص كشلبية وعائشة وحبيبة والعم حفنى وعثمان النجار لقدرات خاصة / خارقة أليس هو الآخر تكوينا أسطوريا يقترب من أبناء الآلهة فى الأساطير القديمة ، الذين هبطوا ليعيشوا بين الناس وليس بينهم وبين الآلهة حجاب . ولا فارق بين العوالم السفلية والأرضية .. الكاتب فى الرواية يعيد انتاج الحكايات الشعبية والأسطورية روائيا مشكلا أسطورته الخاصة لقريته ذات الطابع والقدرات الخاصة أيضا من خلال شخوصها وأشجارها ومائها وحكاياتها وعوالمها الغرائبية / العجيبة فى بناء روائى متميز .
البناء الفنى :
اتخذ الكاتب فى بناء روايته ثلاث مستويات سردية متداخلة ومتجادلة تنهض بتشكيل الرواية ويتبلور خلالها الوعى الشعبى والأسطورى والرؤية الكونية .
أولا ـ سرد واقع السكاكرة فى حالاتها الطقسية ومواسم الحصاد وتزاوج الكائنات والأفراح وتجمع الصحبة الليلية للسمر من خلال مجموعة شخوص نمطية هى شكرى وحنكش وسعيد المتوكل والرمح والشيخ عباس وأهالى السكاكرة الذين يتحلقون حول من يفتح باب الحكايات ولأنها شخوص يؤرقها السؤال تبحث دوما عن الحقيقة وتناقش أصل ووجود الحكاية الشعبية وتحاول كشف الغموض والإلغاز الملتبس حولها للوصول إلى ماهية المكان وشخوصه الأسطورية كعائشة الخياطة وغيرها .
هؤلاء الشخوص يتوسلون بآخرين ذوى مكانة خاصة لأنهم يمثلون أصل القرية وحملة تاريخها ودائرة معارفها وسرها المكنون كالعم حفنى وعثمان النجار وشلبية لذلك تتكرر لقاءاتهم الليلية ، خلاصا من وحشة الظلام وضيق النفس يبتغون تسلية لياليهم الرتيبة وحياتهم الغامضة فيواجهون الحكايات والخوارق ويعودون دوما برغبة أشد . تدل تلك الشخوص برغائبها الغامضة على محاولاتها الدائبة فى اختراق ما وراء الواقعى ويمثلون بلقاءاتهم وأحاديثهم نبض القرية على المستوى الواقعى عاكسين مكنون الوعى القروى وولعه بعوالمه الغرائبية مشاركين بذلك فى تنمية هذا الوعى وأيضا فى خلق وحدات سردية تهاجم الشخوص الأخرى ذات الوجود الأسطورى والشعبى وتحوم حولهم دون الوصول . وهى فى ذات الوقت شخوص تعمل فى الرواية كأدوات فنية تفتح مجال الإلغاز والتشويق وتفعيل السرد وبلورة صورة تلك المجتمعات القروية الآخذة فى الزوال مؤكدة ـ من خلال رؤية الراوى ـ أن سعيها وسؤالها عن هذا الغموض يقودها إلى أسرار عجائبية أخرى تستحق الاهتمام والاحتمال من أجل الوصول إلى المعرفة وفك شفرات حياة القرية بكل أبعادها الأسطورية . يرون الكافورة تسقط فجأة أثناء التفافهم حول شلبية أمام حقل الذرة لتفسر لهم طلاسم نسب عائشة الخياطة والقطة السوداء ومروقها من جدار بيت عائشة فيفرون هلعا بينما سعيد المتوكل يشاهد الأغرب نهوض الكافورة مرة أخرى وهم بسؤالهم وعدم تصديقهم للوجود الأسطورى لعائشة الذى ترويه شلبية والعم حفنى تصعقهم رؤية الكافورة ومشاهدة سعيد المتوكل فلا يصدقهم الشيخ عباس ويلح فى سؤال شلبية فى موضع آخر فيشاهد بعينه مرة أخرى سقوط ونهوض الكافورة فتصيبه حمى الرؤية ويعالجه عثمان النجار برقية شعبية هو وحده الحامل أسرارها " قال عمك عثمان النجار : السبع كلمات المنجيات التامة والكاملة . فنسى عمك عباس ما حدث له وذهبت عنه الحمى إلى بلادها " ص93 .
حتى عائشة تتوقف أمام موت الرمح وهى ذات علم بالعوالم السفلية ومن حملة الأسرار أمام علم ومعرفة عثمان النجار شاهدة بقدراته الأكبر منها .
وهذا المستوى السردى يمثل الشريحة الأكبر من الرواية ويخلق جدلا يتجاوب ويقترب أحيانا من واقعية حياة القرية فى حركتها ومراسم طقوسها حتى يكاد الراوى أن يختفى تاركا مساحات للحوار ولتبادل وجهة النظر بين شخوصه مما يمنحهم حرية التواجد والتحقق . شخوص الرواية تتنوع حسب مستوى قربها أو بعدها عن العوالم الخفية للقرية فشخوص المستوى السردى الأول تقف عند تخوم هذا العالم يصدمها وعى أكبر من قدراتها وطاقاتها الإدراكية فلا تملك إلا أن تصدق ما رأت وإن تنافى هذا مع التموضعات الواقعية وهذا ما يرسبه ويؤكده الفكر الأسطورى .
وشخوص أخرى ذات حياة خاصة وقدرات خارقة تتبلور فى عائشة الخياطة وفاطمة السبعة والعم حفنى وعثمان النجار وشلبية وحبيبة وحنونة هؤلاء يقومون بخلق الأسطورة الروائية ويشكلون سياقا سرديا آخر .
ثانيا ـ خلق الأسطورة وتوليد الحكايات الشعبية وحكايات الجن ويتم فى هذا السياق السردى المزج بين عالم الجن وعالم الإنس بين الواقع والخفى ـ الإدراك وعالم الأسرار وبين الشخوص فى السياق الأول والشخوص الأخرى ذات القدرات الخاصة .
فاطمة السبعة جاءت تتويجا لهذا التزاوج بين عالمين فأمها من خلاصة ثلاث عائلات من الإنس / المغنيين ووالدها الجنى الأحمر الذى هام بأمها حبا من خلاصة تزاوج ثلاث عائلات من الجن الأحمر والأسود / المغنيين أيضا .
وبمولد أم فاطمة ـ ماتت عائلات الإنس .
وبمولد الجنى الأحمر ـ ماتت عائلات الجن .
تلك الملامح فى التزاوج تعكس وعيا أسطوريا نفاذا .
" وفى إحدى المرات كان الحيض قد أتى أم فاطمة فذهبت لتستحم وهناك ظهر لها الجنى وأخذ ملابسها فغنت له فحن وأعطاها ملا بسها من الماء وعادت معه إلى الخارجة عشقها الجنى أكثر من الأول وإن كانت مازالت تخافه ، فظهرت أغانى الهجر والعشق والصد واللوعة والحب " ص41 . واتفاقهما على الزواج كان بشروط أربع : منها أن يغنى كل واحد منهما للآخر ألف ليلة والأحسن غناء تكون العصمة فى يده وكسبت أم فاطمة الرهان .. من يحمل كل تلك الأسرار ويحكيها هو العم حفنى فى ليلة ممطرة سمع فيها أهل السكاكرة غناء فاطمة السبعة حيث تراقصت جدران السكاكرة وكل موجوداتها . وبنفس هذا الطقس تولد عائشة الخياطة آخذة رقبة فاطمة السبعة فى إطار عجائبى فريد لم يرد من قبل " فقامت فاطمة واستحمت هى والمولودة ثم أمسكت السكين وفصلت رأس الطفلة عن جسدها والرقبة عن الرأس ووضعتهما جانبا ثم أشارت لحبيبة لتكمل ، فقامت حبيبة بفصل رأس فاطمة عن رقبتها ثم عن صدرها ثم أبدلت الرقبتين معا " ص46 .
وما كل تلك الأفعال الأسطورية إلا لكى يتبقى الغناء ويمتد فى ربوع وبين جدران السكاكرة لأنه يمثل امتداد الحياة وخصوبتها كما نلاحظ ذلك عندما غنت عائشة فى موسم الحصاد زادت الغلال وفاضت . ثمة علاقة روحية بين الغناء وصفاء الروح وتجليها بين الأسطورة وحياة القرية ، فبدون هذا الغموض الذى يكتنف الشخوص ويتولد فى الحكايات ليس ثمة خصوصية أو تميز . لهذا تلتحف عائشة بالأستاذ أحمد وتتوحد معه عبر مستوى لغوى يصل إلى درجة الحلول والتماهى الصوفى حيث أن الأستاذ هو الموكل بحمل الرسائل وتوصيلها بعد عائشة وإبلاغها للناس ( ربما يكون ذلك الإبلاغ على المستوى الدلالى هو سرد الكاتب لروايته تلك عن عائشة ووجودها الأسطورى المتضمن حياة قريته بكل أسرارها وشخوصها ) وعلى مستوى الحكاية التعليلية تتخلق أسطورة البرتقال بدمه نتاجا لاقتتال الجنى المارق الطامع فى فاطمة السبعة مع والدها الجنى الأحمر وتنتهى المعركة بقتل الأخير فتتشرب أشجار البرتقال دمه وفى العام التالى تثمر برتقالا بدمه .. وتتزوج حبيبة بالرمح بعد زمن طويل ـ من السيطرة عليه بقوتها الخفية ـ تحت الماء فى إشارة إلى حدوث طوفان إذا تم ذلك فى عالم الإنس والرمح برغبته فى الاقتران / الزواج بحبيبة يمثل اختراقا غير شرعى لا يرضى به آل / العالم السفلى لذلك تجده السكاكرة غريقا فى الترعة صباح اليوم التالى الذى حددته حبيبة موعدا للزواج وبعد تسعة أيام من الاتفاق الأول بينهم ويعلم بذلك عثمان النجار مسبقا ويلوح به العم حفنى فى نصائحه للرمح بعدم النوم منفردا .. ولكن إذا كان واحدا من الإنس قد أخذه آل العالم السفلى فسوف يصعد من عندهم واحد إلى عالم الإنس تلك الأفعال الأسطورية مرتبطة بالوعى الشعبى وخاضعة لأعرافه المنظمة له ـ حسب رؤية الراوى ـ ثمة خيال أسطورى مقنن يخضع للإدراك الإنسانى أو يحاول العقل تقنينه وإسقاطه على الواقع حتى يتهشم الحاجز الوهمى بين الواقعى والأسطورى فى الرواية .
ثالثا ـ الحلول .
الحلول من أصل المعتقدات الصوفية الذى من شأنه حلول المريد فى مريده . وانتقال قدراته إليه استنادا للمعنى الدينى عن العبد الربانى الذى يصل فى أعلى درجات إيمانه بالله أن يكون يده التى يبطش بها … الخ
والكاتب استطاع أن يوظف ذلك المعتقد فى روايته بطرائق متنوعة تحمل سماته الأسطورية . هناك حلول كامل لكافة الخصائص كتذويب الرماد الناتج عن احتراق جثة عائشة فى الشربات لتشربه عائشة أخرى صغيرة فى آخر الرواية ويستمر الغناء / المعادل الدلالى لاستمرار خصوبة وتميز المكان .
وثمة حلول جزئى كتبديل لرقبة فاطمة السبعة مع عائشة التى ولدت خرساء لأبيها الجنى المارق الذى فقد صوته فى معركته الدامية السالفة مع والد فاطمة . وحلول آخر رؤيوى تعيشه عائشة مع الأستاذ أحمد عبر لغة شعرية / صوفية " أنا وأحمد مجمرة من العشق وحب الحياة كماء فى ماء ، لا تعرف الأجزاء ولا تعود كما كانت من قبل الامتزاج إلا أن يعلو ويصعد ويحتد ويفيض ونظل نجرى فى أبعاضنا ونحن واحد مكتمل هكذا هكذا " ص105 . واستناد الكاتب بالمعتقد الصوفى يؤدى فنيا على المستوى الدلالى للرواية بما يعنى توليد الأبطال الأسطوريين واستمرار الحكايات فى لحم وجسد القرية وهو فى هذا يتجاور مع الراوى الشعبى مدافعا عن بيئته حاملا لتراثها وثقافتها الشعبية قائما على توصيل الرسائل محافظا على السر والخصوصية والعمل على انتقالها للأجيال القادمة . وعبر مستوى دلالى أبعد يعنى الكتابة عن تلك المجتمعات الزراعية الآخذة فى الزوال تحت وطأة التلفزة والثقافة الواردة .
مستويات اللغة :
جاءت اللغة فى عائشة الخياطة ذات مستويات متنوعة فى معظم أجزائها ، ذات سمت شعرى يعتمد على المجازى والكنائى ليتمكن من احتواء الغموض الذى يكتنف عالم الرواية يدفع بالأبعاد الدلالية إلى ساحات التحقق .
1 ـ لغة شعرية تعتمد على المجاز :
وتعمل على تشعير القرية بكائناتها ومفردات عالمها من إنسان وحيوان ونبات وطير وموجودات غير حية تبث الحياة فى روحها فهى تسمع وتنعتش وتشارك فى القول والفعل " كان المساء يقف على الأبواب متسولا ينتظر الدخول والشمس تجرى كأنما أصابها جن وتنزف على هامات النخيل والغروب امرأة لعوب ، تطل برأسها ساحبة ذيلها ، ليل طويل يتلصص ليغطى كل شئ " ص94 . وتشكل تلك اللغة معظم الوحدات السردية وتخدم السياق السردى المهتم بتوليد الأسطورة وحكايات الجن وتغوص فى أعماق المجهول والشخوص وتكنى ما خفى فى المناطق الشعورية الغائرة لهم حيث يصبح الإفصاح صعبا والاختراق محفوفا بحدوث الخوارق .
2 ـ لغة الحوار :
جاءت كلغة ثالثة تمزج بين الثقافة الشعبية للشخصيات بعبارات ومفردات عامية قريبة من الوجدان القروى وبين الآداء الفصيح . تلك اللغة الحوارية تميزت بقدرتها على عكس ثقافة الشخوص مثل شكرى وحنكش وغيرهم وبلورة ما يموج بعوالمهم الداخلية نفسيا .
" ـ أنت كاذب وابن كلب وطول عمرك بياع كلام وفضايح .
ـ يا بنى آدم أنا شفتها بعينى .
ـ يا حبيبى لنا أرض ذرة هناك . أنا كنت من ساعة هناك وكل شئ فى هذا الكلام حصل حق حقانى " . ص 75
وتعمل تلك اللغة الحوارية خلال السياق السردى الأول المصاحب للشخوص الراغبة فى كشف شفرات البنية الأسطورية .
3 ـ اللغة الشعرية ذات الطابع الأسطورى :
وهذا المستوى من اللغة تحقق فى المقاطع السردية التى شكلت السياق الخاص بالحلول حيث امتزجت لغة صوفية غاصت فى كيفية تشكل السكاكرة وطلوعها للحياة وفى مكنونات الذات عند عائشة الخياطة فى الفصل 13 الخاص بها حيث امتزجت وحلت روح الأستاذ أحمد وحل بها وتولت خلاله وجهة نظر السارد وسردت ما خفى عن القوى المحركة / الغيبية للرجال زارعى القرى .. تقول عن شلبية " داخلها مناطق مظلمة كالأيام السابقة على ظهور السكاكرة حيث كان الظلام والمطر هما المسيطران . ولقد رأيت فى رحلتى كل الآلام وأوجاع المحبين واعترفت وشربت حتى تعبت وتعبت منى البحار والأنهار والآبار ، فرددت وراءهم وِرد الشكر " العفو والرضا لأننى لا أملك إلا أن أرضى وكما تعلمون ضعفى فى التوجه إليه بالشكر . فمن أنا حتى أشكر ؟ " . " ص101 .
تلك اللغة على قدر وضوحها تعكس عبر مستوياتها المتعددة كثافة الشعر وسلاسة السرد . كأنها لغة صهرها الوعى الجمعى وأدخلها فى مجمرة العشق فطلعت صافية شفيفة رائقة وقادرة على البث .
وبعد ،
إن تجربة صلاح والى فى عائشة الخياطة تمثل طرحا فريدا ومتميزا لخصوصية المكان والشخوص والعوالم العجائبية القارة فى وعى القرية . عبر لغة تميزت فى تعدد مستوياتها الشعرية والحوارية . لذلك جاءت ثرية متفجرة ودالة .
ظل الحجرة
سمير الفيل (4)
تحمل رواية ظل الحجرة درجة كبيرة من الخصوصية تنآى بها عن روايات أخرى لاعتمادها بشكل أساسى على تكنيك مغاير لهم وهو تكنيك تيار الوعى فقد استفاد من معظم عناصر هذا اللون من الكتابة كـ ( تفتيت الحدث ، الاسترجاع ، وجهة النظر ، الرمز ، الحلم ، الصورة ، المستحدثات السينمائية ) وأغفل بدرجة ما المنولوج الداخلى مكتفيا بالاسترجاع .
ولذلك لم تنخرط كلية عبر بنائها بالإيغال فى مناجاة النفس أو درجات الوعى المنساب وبالتالى لم تتفتت اللغة . فالكاتب استفاد من معظم العناصر المشكلة لتلك الكتابة كتقنية حداثية مكنته من صياغة نصه الروائى حسب وجهة النظر الساردة . وبالتالى وجب قراءتها من خلال هذا الطرح بالوقوف على عناصر البناء الفنى المستخدمة وعن آليات تشغيل هذه العناصر .
البناء الفنى :
بنيت رواية ظل الحجرة على تشكيل الوعى الانفعالى للبطل عبد العزيز ذلك الوعى الحاد والشاهد على انكسارات وهزائم ذاتية جاءت انعكاسا واضحا لهزائم وانكسارات عامة للمجتمع من خلال مزج العام بالخاص وعلاقاته المتعددة بأفراد أسرته وبالأنثى المتمثلة فى علاقات أخرى متفاوتة على مدار تاريخه الشخصى . تمثل هذا الوعى محتشدا بالتفاصيل والملامح والوجوه منعزلا عنها فى نفس الآن بحكم أيديولوجيته وانتمائه لمرحلة تاريخية ـ سوف نتوقف عندها لاحقا ـ هى حقبة السبعينيات بتداعياتها المريرة منذ النكسة وانتهاء بالانفتاح الاقتصادى ، فبرزت لنا عدة صور متناقضة لا يجمعها إلا وعيا انفعاليا مأزوما يواجه قتامة الواقع سياسيا واجتماعيا . حيث تتلون الأحداث بالصبغة النفسية وتتوالد فى وعى البطل متحولة إلى صور ومواقف تنكأ الجروح بتلاحقها وتداخلها ويقول فى ذلك الدكتور سعيد الورقى " تحولت التجربة كواقع مادى إلى رصيد انفعالى مختزن فى اللاوعى " (5) وهذا الوعى توزع على مستويين :
أولا : مستوى الوعى الخارجى .
تمثل فى تجسيد حال البطل إزاء الزمن الخارجى للرواية ـ الزمن الفعلى الذى تبدأ به وتنتهى إليه وهو ليلة واحدة ( 12 ساعة تقريبا ) منذ فارقت أمه الحياة فى مستشفى بمدينته الساحلية وحتى تنفيذ مراسم دفنها فى الصباح .
تمثل تلك الليلة اللحظة الحاضرة / آنية بثباتها وبرودتها ـ بقاء الجثة فى الحجرة المجاورة لصق حجرته ـ زمنا خارجيا إطارا يخترق وعيه الداخلى ويفجر ماهية الموت كبعد رمزى يستدعى صور الانكسارات الأخرى ويدفع بالسرد إلى الوعى الداخلى .
ثانيا : مستوى الوعى الداخلى .
تمثل فى انثيالات الأزمنة الماضية فى تواتر وتقاطع زمنى من ماض بعيد إلى قريب فى حالة اشتباك مع اللحظة الراهنة وفى هذا المستوى يتم استرجاع أحداث الرواية باستعراض حياة البطل الشخصية عبر تقاطعات زمنية أو ( منتاج الزمن ) حسب مفهوم تيار الوعى ، فليس ثمة من زمن متنام مسلسل يفضى عبر حلقات حسب المفهوم التقليدى للرواية . وإنما هنا تفتيت للحدث وإعادة طرحه حسب درجات الوعى ومواطن الاسترجاع ، فتتابع الوحدات الزمنية يشكل جزرا متباعدة غارقة فى الغموض فى روايات تيار الوعى المنخرطة بكليتها فى تفعيل عناصر هذا التكنيك . وعلى القارئ التقريب بينها لتتبلور رؤيته عبر القراءة . ولأن سمير الفيل لم يعتمد على المنولوج الداخلى إلا قليلا الذى من شأنه أن يفكك اللغة ويجعلها على شكل شذرات أو نثارات نابعة من عمق الوعى المحتشد بالصور والخواطر والذكريات الشخصية لأكثر من وعى . ولأنه عنون فصول روايته فوفر لها بذلك شريحة من الرؤية الكلية وأفقا خاصا بالفصل ، يلعب العنوان فيه دورا هاما فى جمع شتات الأحداث وصهرها كى تفضى إلى الدلالة الجزئية للفصل وتجتمع مع مجموع الفصول فى تشكيل الدلالة الكلية للرواية .
وجهة النظر :
كتبت رواية ظل الحجرة بضمير المتكلم شأنها فى ذلك شأن معظم روايات تيار الوعى لما لهذا الضمير من قدرة على الاستبطان وعلى الإيغال فى درجات الشعور ومن خلال الراوى / المتكلم . ولإيضاح خلفيات وجهة النظر عند بطل الرواية وراويها لابد أن نشير كما أسلفنا إلى صور الهزائم التى توالت كصفعات على وجهه .. على المستوى العام / الأحداث العامة بدءا بالنكسة وتوقف حرب الاستنزاف مما أثار الروح المعنوية لدى الطلبة وثورة العسكر ضد مظاهرات الطلبة عام 1971 واجهاض صور التعبير الديمقراطى وتقويض الحريات مما يعكس أزمة البطل المثقف الذى تعرض للاعتقال بعدما توقف أمام صور التعذيب التى تعرض لها صديقه معاذ الذى وشى باسم البطل ـ مرغما ـ وبأسماء أخرى فى المظاهرات الذى من شأنه أن يعكس واقعا كابوسيا للحالمين بالعدل والمؤمنين بمبادئ الثورة والحرية … إلخ
من هنا تبلورت أزمة معظم كتاب جيل السبعينات فانعكست على أعمالهم ملامح تخبط المرحلة سياسيا واقتصاديا مع بروز قوانين الانفتاح الاقتصادى مما أدى إلى خلخلة الحراك الاجتماعى وانحسار الطبقة المتوسطة التى خلقتها الثورة . وإزاء ارتقاء طبقة الانفتاحيين السلم الاجتماعى توقفت وجهة النظر الساردة أمام زيف هذا التحول الفجائى للمشروع الناصرى ، وجاءت لتعكس ظلا كابوسيا يسيطر بعناكبه وعقاربه السامة على وعى البطل .
هى رواية تطرح أزمة البطل المثقف إزاء مجتمع يعمل بكل قوانينه وفئاته على تهميش المثقف وسحقه وهذا ما يدفعه للفرار فى بدء الرواية من هاشمة / ممرضة المستشفى بعد وفاة أمه بدقائق " حين همت بإطفاء نور الغرفة تحسست صدغى . قلت لها إننى خائف وإننى لست البطل الذى تبحث عنه لأننى إنسان وصولى وانتهازى أبله وضعيف " ص13 . هل كان خطابه هذا صادقا أم يعكس رغبته فى الفرار من ظل الحجرة ومنها رغم أنها حاولت أن تمنحه الحياة فى إشارة إلى تقابل دالتين هامتين تعملان فى أفق الرواية هما الموت مقابل الحياة . ورغبته التى وشت بها عيناه للممرضة عندما كانت تجس يد أمه وتعلن عن موتها من دقائق هو ما دفعها أن تحاول منحه نفسها هربا من هزائمها الخاصة هى الأخرى ، وبرغم صدقه فى كونه ليس البطل الذى تبحث عنه أى ليس فارسا لتلك المرحلة تتبدى ملامحها المشابهة له هى الأخرى " جذبتنى وقالت إن هذا بالضبط هو ما تبحث عنه . لأنها خدعت فى الرجال الذين يدعون البطولة والشهامة ونظافة اليد والفحولة " ص13 . ثمة خداع مشترك للبطل وللممرضة على مستوى حوارهما السابق . خدعته المرحلة ولم يتمكن من التوحد مع البطولة وهو ما يدفع به لإعلان نصف الحقيقة لكنه لم يحاول أن يكون انتهازيا ولم يكن أبلها وإن أوحى لها بذلك لبرودته الداخلية تجاه حميمية الحياة وعراك الجسد وتحقيق الرغبة المطمورة معها إنما يركن للموت البارد فى وجه أمه . تتبدى لنا خلال ذلك بعدا نفسيا يمثل الهزيمة القارة فى نفسه التى تدفعه للفرار ليظل سادرا فى حزنه بجوار الموت وانثيال الماضى بقسوته التى بدأت مع أول صفعة من أمه له على لعبه الطفولى مع ابنة الجيران سوسن لتقضى بعنف على براءة تشكل شخصية البطل ، مكملة قسوتها بصفعة أخرى عند زواجها الثانى من صاحب الوكالة بعد وفاة والد البطل . ثمة هزائم متوالية تجمع بين تلك الطفولة المعذبة بعدم تفتحها فى مناخ طبيعى وبين هزائم الوطن . وتوحد العامل الشخصى مع العام يؤيد أن الانسان ابن مرحلته وما يعيشه أفراد أى مجتمع ما هو إلا انعكاسا مباشرا أو غير مباشر لمجموعة تحولات مجتمعية ، فالعلاقة طردية وتفاعلية معا ، خاصة مع بطل مهموم بقضايا واقعه مشاركا وفعالا مناضلا وثوريا تغلى بدمائه دماء التحرر والرغبة فى الانتصار وهو ما ينطق به أثناء دراسته الجامعية على نجيلة الكلية بجوار زميلته نشوى الشاعرة " انطلقت تهمس بقصائدها الفرحة والمعذبة قلت لها بعد أن استمعت لصوتها الرائق : رومانسية غادرت عالمنا قالت تهز رأسها : ليست تهمة . قلت : لا أقصد لكن أين الوطن .؟ هل نفصل ذواتنا عنه " ص89 . إذن بطل بتلك الملامح الثورية المنتمية لمجتمعه يرفض إعطاء الدروس الخصوصية لمادة الفلسفة التى يدرسها . ويرفض السفر لبلاد النفط كالدكتور كريم ابن خالته الذى هذب ذقنه ولبس العقال والدشداشة . يرفض الانسلاخ من جلده ، بيع أحلامه من أجل المال . يرفض مسايرة المرحلة لوعيه المتفتح لمدى زيفها وفسادها . فأخوه شكرى وزميل دراسته إدريس شخصيتان تمثلان بدلالة واضحة أنماط البشر الذين صعدوا السلم الاجتماعى رغم خيبتهما تعليميا . كلاهما يحققان ثروة هائلة ، الأول بسفره لبلاد النفط وعودته ليفتح المعارض ويبنى العمارات ، والآخر كون ثروة مجهولة الهوية ويسأله المساعدة كى يتهرب من الضرائب .. كل الهامشيين يحققون مكاسب ويرون ثوريته خطابا أجوفا . يسعون للنيل من المجتمع ومن بعضهم ومنه كصورة حقيقية تأبى الانخراط فيما هم ساعون إليه .
ثمة هزائم أخرى تتوالى بحكم العلاقات الغير متحققة مع الأنثى . فالبطل عبر انثيالات زمنية متقاطعة ومتفجرة عبر تداعى الصور والمواقف والانكسارات يجابه نفسه ويعريها أمام الأنثى ، بدءا من صفعة أمه وانكساره أمام ابنة الجيران ، مرورا بعواطف زميلة الجامعة الفنانة الثورية التى هجرته سعيا وراء بريق الذهب ثم فشلت زيجتها وعادت تعرض نفسها عليه بعد فشله هو الآخر وانفصاله عن زوجته انتصاف ، وبرغم انجاب طفل إلا أنها فضلت الاحتفاظ براتبها عن الاحتفاظ ببيتها وزوجها . رافضة المساهمة فى المعيشة كى تدفعه نحو الدروس الخصوصية والانخراط فى المرحلة واستغلالها كالآخرين " قلت لها بعد أن هدأت الزوبعة : نقتسم مصاريف البيت أنت تدفعين الإيجار والإنارة والمياه وأسدد أنا أقساط الأثاث وأشترى لوازم البيت . كشرت عن أنيابها ، وكأن فكرتى كانت الشرارة التى فجرت برميل البارود الذى كان يحتل ركنا مهملا فى المنزل : أنت لم تتزوجنى إلا لتستغلنى " ص96 . أى استغلال فى المشاركة ؟ خطابها هنا عن الاستغلال يشى بشكل جوهرى إلى تداول ذلك المبدأ إبان تلك الحقبة وانفصال الأحلام والطموحات حتى بين الزوجين ؛ المال أولا والاستغلال هو المبدأ .. بدءا من عواطف الثورية وصولا لانتصاف ، انتهاء لاقتسام الأساور الذهبية للفقيدة / الأم وابتعاد البطل عن المشاركة فى القسمة يحيده عن ملامح الآخرين . أما علاقاته بنشوى وأميرة ومنى ليست أكثر من علاقات هامشية انكسرت على صخرة مثاليته حينا مع أميرة وثوريته حينا مع نشوى ، شبكة من العلاقات كلها أضافت ظلالا كابية ورغبات لم تتحقق ، بالتالى فهو يرغب فى الفرار من تلك النماذج الحاملة لبذور التفسخ وملامح المرحلة ، لذلك يأبى التوحد مع هاشمة ، لأن كلاهما مهزوم محبط .
تمثلت نماذج المجتمع / أخوته .. جميعهم حقق نفسه بطريقته الخاصة وركب موجة الانفتاح فشكرى انتهازى سافر وعاد صاحب مشاريع وأبهة، والثانى فتحى المنشغل بحساب اقتصاديات المرحلة استطاع أن يثرى ، أما خالد المهندس فرفض الوظيفة أو البطالة المقنعة على مكتب بوزارة الاسكان ، وبحكم تكوينه اللامنتمى للمكان فضل أن يسافر ليعمل بالملاحة فى الخارج . النموذج الوحيد والقريب منه أخته منيرة التى تشكلت رمزا للصفاء والانكسار والخنوع . تألمت بفقدان والدها وعندما تزوجت أمها وأحست بفقدان حميمية الأخوة بانقطاع صلة الرحم من قبل أخوتها ـ ما عدا البطل ـ كل تلك النماذج السالبة ، بتعدد أنماطها وأشكال اختيارها للأدوار المنوطة بها . اجتمعت على مبدأ واحد هو استغلال المتاح . ولا نستثنى سوى الأسطى اسماعيل / الخال وبعض النماذج الثورية التى لا يعلم البطل مقدار صمودها من عدمه . وإن تعرض لشخصية كمعاذ الذى تزوج من أجنبية وهاجر معها فى إشارة لافتة للتحول المضاد .. وهو ما يدفعه لاستعادة ملامح البطولة الشعبية والتعريج عليها من خلال زيارتهم لمقبرة ( الشيخ جمال الدين شيحة ) الذى دافع عن دمياط مع أولاد البلد والشطار والعيارين بأسلحتهم البسيطة ضد الصليبيين فى حين فر الأمراء خوفا على أموالهم ؛ واصلا للذين صمدوا تحت سياط التعذيب والذين دافعوا عن رمال الوطن فى الضفة الشرقية .. التعريج على الجانب التاريخى يحمل أيقونة تستدعى البطولة فى تجلياتها عبر الزمن لتقف حائلا مناقضا لصور الانهيار المتبدى فى شخوص المرحلة . هذا التحصن بالتاريخ والتوحد بالأسطى اسماعيل الذى رفض بيع دكانه لأحد الأثرياء الجدد وأصابته بالشلل فى نفس اليوم يعد رمزا آخر لتفجر الوعى المأزوم ، واستدعاء البطل له فى أكثر من وحدة سردية يكنى رغبة دفينة فى تقوية موقفه الصامد ، وإعادة بثه كعنصر دلالى بعد رحيله هو بمثابة استفادة من تقنية الرمز .
ملامح أخرى :
الحلم :
استفاد الكاتب من عناصر التشكيل لتكنيك تيار الوعى مثل الحلم ليستبطن به وعيه المضطرب وقلقه الشديد من الحاضر " غفوت قليلا ، لأن يدها راحت تهزنى ، قالت لى وهى تهمس فى أذنى برفق : كنت تصرخ كانت الرؤية ضبابية قبل أن تخرجين من معمعة الاقتتال حين حاصرتنى الجياد ، وعلقوا حبلا يتدلى من شجرة جميز . صحت انتظروا هى قادمة . لكنهم صمموا على شنقى " ص80 . ذلك الحلم / الكابوس سيطر عليه عندما غفا قليلا وهو حلم دال على إدانة جماعية للمجتمع متمثلا فى تلك الوجوه التى أزمعت شنقه .
اللازمة المتكررة :
تجسدت فى صورة ( قط أرقط فى بير السلم نظرته مسددة نحوى . لم يخف منى بل ظل يرقبنى دون أن يطرف له جفن . قط أرقط فى العتمة بينما النحيب يتناهى إلى سمعى ) ص 31 . ( حتى لو وجدت القط الأرقط فسأصعد . سوف أصارعه وأخنقه وسأعامله بكل فظاظة ) ص33 . وتكرار الورود السوداء .
ذلك التكرار يعمل على بلورة المستويات العميقة للوعى ويشارك فى صنع شفرات النص وخلق دلالات رمزية .
الصورة :
اعتمد على الصورة الشعرية فى اكتنازها وإيحاءاتها كعنصر هام فى تشكيل المعنى اللامرئى وتكثيف ظلال الأحداث ليصل بالبعد الدلالى لتلك التوترات الحادثة وهذه التقنية هى الأبرز فى الرواية ربما للتحكم فى سيل التداعى وإحكام الرؤية داخل النص " لا يمكنك العثور على شجرة أو شرنقة أو شاطئ فقط ستقبضين على نسخ شائهة من خواء وخسران وحرمان " ص127 .
المستحدثات السينمائية :
استفاد منها فى المونتاج الزمانى والمونتاج المكانى ، فتكاثفت الأزمنة وألقت بظلها النفسى وبعدها الدلالى عبر تقاطعات وتجادلات متعددة وسريعة صاحبتها تعداد الأمكنة ما بين المكان الأكثر حضورا دمياط بورش الأثاث والقشرة والغراء حتى كأنك تشم رائحة المكان وخصوصيته فى مقابل أمكنة أخرى فى القاهرة كالنصب التذكارى أمام الجامعة ومصر المملوكية فى " فصل ـ سيف باشتاك " . ووردت الوحدات السردية قصيرة مكثفة مما ساعدت على اكتناز الصورة وبلورتها .. كل تلك الصور والأحداث جاءت محملة بالظلال النفسية للراوى وعاكسة قتامة الواقع وسوداويته فى ظل الحجرة .
صبيحة تخرج من البحر
عبد العزيز عبد المعز(6)
القرية هى عالم رواية صبيحة تخرج من البحر وقدمها الكاتب بطريقة فيها حنو بالغ ومتأن وبشاعرية تحمل درجة كبيرة من عناصر التخييل ، وبرغم أنها تحتفى بالقرية كمكان أثير إلا أنها فارقت وجهة النظر فى الروايات الكلاسيكية التى تناولت القرية فى الأربعينات والخمسينات فمن الواضح ولع الكاتب بمفردات المكان كالخرابات والبرك التى تسكنها العفاريت والطاحونة والأشجار القائمة على حواف الترع والمصارف . إنه عالم يستمد جذوره ووعيه من ماض مازال يغذى الحاضر فى حلقات متصلة وحسب مفهوم تأويل النص وإعادة انتاج دلالاته المتنوعة وربطها بدلالات أكثر عمقا واتساعا على المستويات الجمالية نجد أن الكاتب يشكل عالمه إبان مرحلة طفولته . فوعى الراوى الآن وعى ناضج يدين تلك الخرافات كدلالة عميقة وإن بدا محتفيا بهذا العالم فى حدود وعيه الطفولى ، كطفل حين كان مشاهدا وراصدا ومشاركا فى ألاعيب الطفولة " رأيت أغصان الشجرة تطرح رؤوس العفاريت .. تتدلى مخيفة ، مرعبة ، عيونها تطق الشرار !! .. ركبنا العربة الكارو ورجعنا إلى البلدة ، حكيت للعيال ما شاهدته فى هذا اليوم ، بعدها أصبحت الجميزة العجوز التى على الجسر فى طريق الطاحونة تتأوه وتبكى من مسامير العيال التى فى جذعها " ص90 . ثمة ملامح تعيد انتاج الخرافة فى وعى الطفل وتلقى بجذورها نحو المستقبل . رغم خيبة الشيخ العراقى فى معرفة مكان اختفاء صبيحة ومغاورى ، الشخصيتان اللتان تمنحان الرواية دالتين هامتين لبكارة الأرض / صبيحة .. والفحولة والفعل / مغاورى . إلا أن الطفل يحاول تقليد طقوس السحر والشعوذة ويجهض الجوهر الفعال لهؤلاء المشعوذين وإن تمكنوا من استلاب الوعى القروى بممارسة طقوس زرع المسامير فى الشجرة الكائنة أمام داره بحجة ربط العفاريت مما يؤصل للخرافة التى تعيش وتجدد نفسها من خلال وجودها الطقسى ومدلولها الشعبى فى وعى الجماعة . بصرف النظر عن مساهمتها فى إنتاج الفعل وإضافة المعرفة وفى هذا تفريغ وتشريح لخرافة المعتقد كدلالة عميقة فى النص برغم ظاهرية الاحتفاء والتأصيل .
اتكأ الكاتب على الخرافة والحكاية الشعبية كبنية محركة وفاعلة وموجهة لحركة الحياة والأحداث طوال الرواية وأضاف لها عوامل أخرى على المستوى اللغوى أهمها تشعير العالم أو مجازيته بواسطة أنسنة الموجودات المشكلة له كحجر الرحى الذى يقوم بجولات للبحث عن صاحب الطاحونة مغاورى .. وغيرها من كائنات حية أشجار وحيوانات وأخرى مكانية كالنافذة والطاحونة والكبارى … الخ . يمكن إيجاز كل ذلك فى أنه أنسن عالمه / المكان بكل مفرداته وأدخله فى محيط السرد ، بل أسند إليه القول والفعل وجانب من وجهة النظر ، مما أضفى العجائبية على هذه الرواية " أنا حجر الرحى أرجع مهزوما بعد رحلة البحث وتتبع أنفاس مغاورى ، أرض الله واسعة فلا تلومونى .. لقد فشلت .. كانت العيال تزفنى والكلاب تنبح ورائى ، وضحاياى كانت كثيرة : فئران . ودجاج ، وبط وماعز وزرع " ص92 . كما تم تفعيل دلالة شعرية قارة فى الوعى بشكل أصيل ومرتبطة بالعدد سبعة وهى منتشرة فى أرجاء الرواية على صورة تعاويذ دلالية فى نفس الآن " أنصاف الطيبة قذفت بسبعة قوالب طوب فى عرض الشارع وقالت لعطية الأعرج : أمامك سبعة قوالب طوب بسبعة أسابيع " ص50 . ويقدم الشباك تعويذة لأمارة أم صبيحة عند مرض ابنتها " قال شباك الحجرة : امرأة لا تحيض تناوليها البنت من خلالى سبع مرات ، وتوحدى الله سبعا ، وتسبحى سبعا ، وتصلى على النبى سبعا " ص16 . فالأحجبة والعملات وأفاعيل الشعوذة والتنويع على عالم الجن والعفاريت وجنيات البحر وعروسة البحر . فتح مجالا فسيحا فى الرواية لتحمل وتعكس معا الوعى الشعبى لعالم القرية .
لنتوقف أمام الشخصية المحورية والمعنونة بها الرواية : صبيحة /
أولا : تشكلت تلك الشخصية عبر المعتقد الشعبى بأن البنت هى الكائن الأقل / الأضعف لذلك تحبسها أمها فى الدار منذ تفتحت أنوثتها وعندما خرجت بعد طول إخفاء يغتصبها السباعى ويهج للخلاء حاملا عار اغتصاب شرف وبراءة القرية . ولا تجد صبيحة مهربا من عارها سوى بتوحدها بالماء فى إشارة إلى فعل طقسى هو مناداة جنية البحر لها . ويجئ التعليق بعد ذلك .. كل عام البحر له واحدة .. فى إشارة أخرى للطقس الفرعونى عن عروسة البحر التى تقدم بكامل زينتها فى أعياد شم النسيم ضحية وعروسا للبحر وقت فيضانه ثمة توحد للطقس الفرعونى المتشابك مع الوعى الشعبى فى تحويل صبيحة بعد عام إلى جنية تخرج لمغاورى وتلاطفه وتحقق معه التلاقى والتمازج الذى لم يتوافر لهما فى الظروف العادية .
لماذا تفقد القرية باختفاء صبيحة خصوبتها ؟ ويختفى مغاورى رمز الفحولة الدال بينما يعتلى عطية الأعرج الوجه الشيطانى ـ حسب تعبير الرواية ـ وتابعيه / أذرعه مساحة للفعل والتواجد حيث يقومون بالحرائق والسرقة والسيطرة على مقاليد القرية بالقوة وبالحيلة حين يدفع عطية بالمرأة التى تطرقع بالمضغة تلك الغانية لتفرد خيوطها العنكبوتية على رجال القرية بجمالها الطاغى فتجاور العمدة وشيخ البلد ومهندس الجمعية وتصبح رأسا رابعا مع الكبار .
ثمة عوامل وشخوص تنخر فى أحشاء القرية مستغلة الطيبة والتسليم القدرى للخرافة والبله وانقيادهم وراء ما يرويه ابن نفوسة العبيط عن أماكن اختفاء مغاورى .
هذا الطرح لتلك الشخوص يعنى تحويل مسار الفعل الايجابى حسب وجهة النظر الساردة من أيدى البسطاء إلى آخرين يمثلون الوجه السلبى المتستر بالليل وبالقوة المخترقة للقانون كالسباعى الذى يسرق العلف ويبيعه بمساعدة شافعى والد صبيحة . هل تلك السلبية النابعة من وجوه الشر فى القرية هى كل ما فيها . ذلك الوجه عطية الأعرج يمثل طرفا دراميا سالبا والقرية تمثل طرفا آخر ويتولد الصراع بشكله التقليدى بين الشر والخير ويتدفق مع تدفق السرد وشاعرية اللغة وتبادل الرواة مستويات السرد وتقاطع الوحدات السردية زمنيا لتؤدى بالدلالة المركزية باختفاء صبيحة أو تحولها إلى جنية البحر لتبدو أسطورة شعبية يقوم الوعى الشعبى بتنميتها نافيا عنها الزوال وخالقا لها أدوارا أخرى
" اختزن المساء كل هذه الثرثرات .
ـ شاهدت امرأة صبيحة فى بلد تلبس ملابس قصيرة وتكشف عن فخذيها .
ـ تضع طلاء أحمر على شفتيها وخديها وألوانا أخرى على جفنيها .
ـ تجر خلفها كلبا نظيفا بسلسلة لامعة .
ـ شاهدها رجل تتسول ، تمد يدها للناس وتلبس جلبابا مقطعا .
ـ شاهدها آخر تلبس ملابس الغجر وتهش على الغنم التى تسرح على الجسور . " ص66 .
فما المانع أن تكون صبيحة كل هؤلاء كدلالة عميقة تعكس التحول الذى عصف بالقرية . وخلق من تركيبها مسخا لا تربطه بها أية درجة من درجات الانسجام . وتتحول شخصية صبيحة إلى عنصر دلالى تتجمع حواليه دالات ترجح حدوثه وامتداده فى المستقبل وإن بدا كل هذا فى طى الادانة الباطنية لتلك التحولات فى وعى الطفل / وقتها والذى يؤسس بكتابته تلك إلى استكناه الخفى والمسكوت عنه حيث يقوم بتشريح الحكاية والمفهوم الشعبى ثم يطرحه للوجود والتفاعل مع القارئ ويحتفظ بخصوصيات وملامح تباعدت حاليا بحكم ثورة الاعلام والتلفزة … الخ .
يمكن القول أن ليس ثمة بطولة بعينها للشخوص فى الرواية ، إنما ثمة بطولة للقرية ككيان يتحرك ويسعى وراء المعرفة وفك طلاسم المجهول لزحزحة الوعى المحتشد بالخرافة نحو وعى آخر وذلك بإلقاء الضوء عليه .
أظن أن البطولة الحقيقية فى الرواية كانت لتلك اللغة التى استفادت أولا من موروثها الشعبى وأشعلته بوسائل متنوعة مثل أنسنة الموجودات وتحريك المكان وتفعيله وتحويل مسار السرد له كى ينطق ويشاهد ويسجل تحركات الانسان فى محيطه ، وتخبطه وصراعاته الأزلية بين الخير والشر . لكن مما يتولد الشر ؟ تؤكد الرواية أن القرية بقسوتها وإهمالها أحيانا لبعض الشخوص مثل عطية الأعرج والسباعى وابن نفوسة تولدت نتاج ذلك العنف فقامت بالعنف المضاد . إذن ثمة رؤى أعمق يمكن أن تتولد عبر قراءات متأنية للنص لأنه لم يتوقف أمام كلاسيكية المتناقضات إنما حاول أن يخلق جدلا حول العلاقات والمفاهيم التى انقسمت كالنواة لتتفجر عناصر الدراما وتتصارع الشخوص والمصالح ويتمثل الثابت أمام المتحول فى حالة من الدينامية تهيئ الرؤية المركزية للرواية وتصعد بها إلى حالة من النضج .
واللافت للنظر أن ثمة أعمال أدبية بعينها ألقت بظلالها على رواية عبد العزيز عبد المعز . رغم أن الكاتب لم يقع فى أسرها وإنما حاول أن يفيد من تلك التقنيات بوعى مثل كتابات صلاح والى ولغة يحى الطاهر عبد الله " دخل مغاورى إلى صبيحة الحجرة الرطبة كانت صبيحة مكسوة بأربعة جلابيب ، جلباب الحزن وجلباب الغيبوبة وجلباب الحيرة وجلباب الدهشة " ص68 . وتكرر ذكر الجلابيب المجازية فى الفصل 15 ثلاث مرات فى صفحتين " رفع السباعى بوزه عن العلف وعن الكسب ، أخرج هواء من فمه ، أخرج هواء من دبره . رأى شافعى مكوما فى ركن المخزن كان شافعى قد شرب سطلا من البوظة وسطلا من العرق وثلاث زجاجات بيرة وثلاث علب تبغ " ص20 . ولو استهوته تلك الكتابات ووقع فى أسرها لانجرف النص الأدبى وغدا ظلا باهتا لما سبق انتاجه . إنما ساعدت تلك الافادات من بلورة عالم القرية ووجه نظر السارد الذى حقق ثراء بأسلوبه اللغوى وبعث روحا للسرد وحياة تحمل وتبشر بملامح كتابة جادة وجيدة عندما تتفرد بنفسها فيما بعد .
أميرة البدو
مجدى محمود جعفر(7)
تشكلت رواية أميرة البدو كبنية صراع .. تنهض على عناصر درامية تعمل كمحرك وفاعل للأحداث . تلك البنية تعود فى أصولها إلى المسرح وللروايات المبكرة التى اهتمت بكتابة التاريخ فبرزت محتوية على مشاهد عديدة تصويرية للمعارك والدسائس فهى تتمتع بالرسوخ . لكن الكاتب فى روايته لم يلجأ لكتابة رواية تاريخية بالمعنى السالف بل اتخذ من بنيته خلفية محركة ومن خلال تلك الخلفية تجسد النص وشفت الأحداث وتم ترجمة الشخصيات والمواقف إلى الوجه الآخر للعملة / التاريخ . وحتى يكون النقد ذو دور فعال عليه أن يعتمد على النص المدروس ويقوم بتحليله كبنية روائية متحققة وعبر عمليات التأويل تبرز علاقات النص مع ما هو تاريخى أو اجتماعى أو واقعى … الخ
شبكة العلاقات :
ترتكز الرواية على شخصية محورية هى بدوية وإليها نسبت الرواية / أميرة البدو ؛ تعمل تلك الشخصية كنقطة ارتكاز وسط دائرة من الشخصيات التى تتصارع عليها ، فهى برغم دخولها إلى الرواية كبدوية فقيرة راعية للغنم ، وتمثل مطمعا لفرط أنوثتها وضعف أهلها من البدو .. تمكنت خلال أحداث / معترك الرواية أن تصبح صاحبة ضيعة وتجعل من ضيعتها المنشأة على أحدث نظم الحضارة مثار طمع وصراعات لا تنتهى . وإذا قمنا برصد الشخوص الأخرى المشاركة كأطراف لانتاج بنية الصراع وجدنا ..
* الفتوة الذى يبدأ علاقته باغتصابها وينجب منها عددا من الأبناء .
* فارس الذى يتزوجها بعد هجر الفتوة لها عن طريق الهبة ولها منه عددا من الأبناء .
* الشيخ الذى يفتى ببطلان زواجها من فارس ويتزوجها وينجب منها وفى النهاية يدبر للخلاص من ضيعتها بمساعدة الرجل الأبيض . حتى تعود وترتمى فى أحضانه .
وتصديرنا آنفا عن اتكاء الرواية على التاريخ يرجع لمستوى القناع الرمزى الذى جاء واهنا لذا لزم إيضاحه . لذلك وجب قراءة الرواية فى ظل المراوحة بين الرمزى والتاريخى ، فكلاهما وجهان لعملة واحدة .
بداية الفتوة كشخص مشكل ، تعد علاقته ببدوية شكلا من أشكال الاغتصاب بما يتميز به من جلافة وسوقية ينعتها عند معرفته بإحيائها لذكرى بدوى زعيم البدو . أنها بنت قحبة ويرسل كبير العسس ليأمرها بالحضور إليه ذليلة صاغرة . عندما تتوقف الحرب بينه وبين عدوه اللدود فارس يرى ضيعته صارت منهكة القوى على جميع المستويات فيأخذ فى غزو ضيعتها ـ الأحداث هكذا لا تنحرف عن مسار التاريخ ولا تقيم جدلا أو تناصا معه كما يقول د / صلاح فضل عن نظام التشفير فى أولاد حارتنا " ومن ثم ينبغى لنا أن ندرك عملية التناص وننتبه إلى عدم استغراقه لإشارات التخالف المتكاثرة . وهى إشارات تهتم بـــ أولا : الاقتصاد المحكم فى التفاصيل الكثيرة الموروثة لاقامة بنية جديدة من العناصر .
ثانيا : بث مجموعة أخرى من الاشارات المبتكرة فى ثنايا النص تضمن له قواما خاصا به " (8) .
والكاتب لم يقم بعمليات تناص . لأن النص الروائى بأكمله يعتبر نصا موازيا لأحداث تاريخية انفلت منها فى الحركة الأولى حين اختار شكل الصراع الشعبى من خلال صراع ثلاثة شخوص حول أنثى واحدة ورغم أن هذا الجزء كان ديناميا وحيا داخل الشخوص مما مكن الرواية أن تلقى بظلالها الدرامية وتترك الحرية لخروج الشخوص عن مرجعية التاريخ لتشارك وتعبر عن نفسها وتبلور وجهة النظر قبل ظهور النفط . بينما تحول مسار الخط الدرامى بعد ظهوره بين الأشخاص الفاعلين إلى صراع الكتل . حيث توحدت بدوية بأبنائها من الفتوة وفارس والشيخ وأقامت بثروة النفط ضيعتها الحديثة منتقلة انتقالة حضارية من رعى الغنم إلى عصر التكنولوجيا . صار الصراع مجتمعيا . ضيعة الشيخ تخشى على رعاياها من الافتتان بضيعة بدوية ويصيبها القلق حين تقيم سورا عليه رجال أشداء بالسلاح ويأمر الشيخ بهدمه . وضيعة الفتوة تطمع هى الأخرى وتشير عليه بإعادة أيامه الماضية / علاقته غير الشرعية مع بدوية . أما ضيعة فارس فتتحين الفرصة . لكن ضيعة الرجل الأبيض هى فى النهاية من تملك تحريك الأشخاص والأحداث فتقوم ببث الشقاق وتدبير المكائد مما يعكس هشاشة نظم الحكم فى تلك الضياع الطامعة والمطموع فيها لذلك

ليست هناك تعليقات: